«العدول فـي الرسم المصحفي ودلالاته البلاغية والإيمانية» «4»
.. لكنْ، لو تريثنا في الإعرابين: الثاني والثالث القائلَيْنِ بأنها (لا) ناهية لرفضناهما عاجلًا؛ إذ كيف يُنهَى الرسول عن النسيان، وهو مَنْ هو حرصًا، ودأبًا على حفظه وتثبيته في قلبه، وحسه، ووعيه، وهو الذي كان يراجعه مع سيدنا جبريل (عليه السلام) بصورة متتابعة، وفي رمضان يراجعه أكثر من مرة، وهو الذي قيل في حقه الشريف لتعجُّله في حفظه، وتكراره:(لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة 16 ـ 19).
فالقولان إذنْ مردودان بآيات أخرى، وبسلوك الرسول الكريم، وعلمنا اليقيني بحفظه إياه واستحضاره في أي لحظة يريده فيها، فغير مقبول في حقه أن ينسى، ثم يُنْهَى ألا يَنْسَى، هذا الفهم في حقه الشريف غير وارد، ولا مقبول مطلقًا.
والمقبول أن تكون(لا) هنا نافية، ويكون المعنى: أننا سنقرئك، وتكون نتيجة إقرائنا إياك أنك لا تنسى، بنبر خفيض، يعني الإخبار، لا النهي، ويفهم التقرير، والإقرار بأنه لا ينسى؛ لأن الله هو الذي أقرأه، وحفظه إياه، وما حفظه الله إياه لا يمكن أن ينساه.
وعلى هذا فالفعل جاء على القياس النحوي، ولم يخالف قاعدته إلا على رأي من ذهب إلى أنها (أي لا) ناهية، وهو أمر لا يليق برسولنا الكريم، ومقامه.
وحتى لو تساهلْنا مع من قال بأنها (أي لا) ناهية، وبقاء الألف المقصورة هنا على غير القياس النحوي والصرفي، فيكون المعنى أنه لم ينسَ، حتى الألف وردتْ من شدة تذكره، ولم تُحذَف، كما أن وجودها يشي، ويوضح تذكره لكل شيء في القرآن حتى تلك الألف المحذوفة قياسًا، والتي اجتُلِبَتْ للسجعة، وأن الفعل جاء على القياس، وأن الوزن الصرفي هو(تَفْعَى)، وليس الوزن(تَفْعَلْ) على التحليل الذي سبق أعلاه، وأنه في الحالتين: الحذف والذكر والوفاق والخلاف في القياس قد جاء لدلالة كبرى، وهي تذكُّر الرسول لكل حرف في القرآن الكريم، وعدم نسيان أيِّ شيء فيه، وأن النسيان مستحيلٌ على شخصه الشريف، وأنه لا يجوز أن نمضيَ إلى ذلك الفهم السقيم، وهو أن الرسول ينسى، وينهاه الله ألا ينسى، وأنه يجب تذكُّره، وعدم نسيانه.
ومن تلك النماذج أيضا قوله تعالى:(أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ، ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس 102 ـ 103).
الفعل (نُنْجِ) جاء بغير ياء في الرسم المصحفي، مع أنه في حالة رفع؛ حيث لم يُسبَق لا بجازم، ولا بناصب، فكان وفق السياق الصرفي والنحوي للكلمة أن تأتي الياء هكذا:(وكذلك ننجي المؤمنين)، لكنه ورد بغير ياء، رغم أنه مرفوع في هذا السياق، ولعل المخالفة النحوية هنا.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية