الخميس 01 مايو 2025 م - 3 ذو القعدة 1446 هـ
أخبار عاجلة

«العدول فـي الرسم المصحفي ودلالاته البلاغية والإيمانية» «3»

الأربعاء - 23 أبريل 2025 06:38 م
20

.. فلما كان السياقُ سياقَ هدوء، ومسرحَ صفاء، وسكون جاءت أحرف الكلمة؛ لترسم لنا ذلك الجوَّ الصافيَ، الهادئَ بسينه، ويائه، ورائه الساكنة، ويعرب فعلًا مضارعًا مرفوعًا بضمة مقدرة على الياء المحذوفة للرسم المصحفي، أو لأجل الرسم العثماني، وبالطبع؛ لتناسب جو الليل والسرى، والهدوء، والصفاء، والسكون الذي تحبه الطاعة، وتحبذه لحظات العبادة. فالعدول هنا قد حقق المعنى المطلوب، ورسَّخَ الدلالة التي سيق لها الفعلُ، وناسبتْ مخالفةُ القياس ما ترمي إليه الآياتُ الكريمات من هدوءٍ، وسكون يتطلبه جو الطاعة، وصفاء، وتؤدة تتناغم مع أجواء العبادة، وخصوصًا في تلك الأوقات التي فضلها الله على غيرها من أزمنة العام كله، وجعلها بركة على غيرها من أوقات السنة كلها، وجعل لها ثوابًا مضاعفًا، وأجرًا كبيرًا. ومن تلك النماذج أيضًا قولُ الله تعالى:(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى، سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) (الأعلى 1 ـ 7). الفعل (ينسى) جاء كاملَ الحروف من غير نقصان، رغم أن (لا) قبله جعلها بعضهم ناهية، و(لا) الناهية حرفُ جزمٍ، فمن المفترض على حد قولهم أن تأتي بغير ياء:(فلا تنس)، لكن القرآن الكريم جاء بها، وأثبتها، وهنا أقوال للنحاة في إعرابها، أعرضها وأختار ما يناسب السياق، وما يتماشى مع الدلالة التي يرمي إليها الهدف من وجودها، فقد ذكر أهل الإعراب في هذا الفعل ثلاثة أقوال: القول الأول هو: أنّ (لا) هنا نافية، وأن الفعل في حالة رفع بضمة مقدرة على الألف الموجودة (الألف المقصورة) للتعذر، لأنه معتل ألفيٌّ، تقدر حركته على آخره ـ كما هو معروف ـ للتعذر، والقول الثاني: إنه فعل مجزوم بـ(لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، واجتُلِبَتْ ألفُ قصر جديدة؛ لتناسب السجعة القرآنية، فهو بوزن (تَفْعَى)، وليس بوزن (تَفْعَلْ) لأنه محذوف الآخر لعلة الجزم، وما حُذِفَ آخره يُحذَف نظيره في الميزان، فهو محذوف اللام فغي الميزان، والألف المثبتة ليست لامَ الميزان، وإنما هي حرف زِيدَ في اللفظة لتناسب السجعة التي تنتهي بها أواخر الآي، وتتماشى مع كل السورة، وتحدث انتشاءُ مَّا، وبعث في النفس متعةً، ولذة كبيرة، وسعادة بالغة، والقول الثالث: أنه مجزوم بحذف ضمة آخره، وعُومِل الفعلُ المعتلُّ هنا معاملة الصحيح، فكما أن الفعل الصحيح الآخر يُجزَم بحذف حركة آخره، لا حرفه كله، فيسكن الآخر، فكذلك هنا حُذِفَتْ ضمة الياء، وسكن الحرف، كما نقول:(لم يلدْ، ولم يولد، ولم يكنْ له كفوا أحد)، فهو مجزوم وعلامة جزمه حذف حركته، ووضع السكون؛ معاملة الصحيح الآخر المجزوم الذي تحذف حركة آخره ويسكن، ولا يُحذَف منه الحرف كلُّهُ. العدول فـي القرآن الكريم وأهم دلالاته البلاغية والتربوية

د.جمال عبدالعزيز أحمد

كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية [email protected]