تأتي قِيمة التَّكافل الاجتماعي باعتباره مدخلًا سحريًّا في حلحلة الأزمات الاقتصاديَّة النَّاتجة عن التَّضخُّم وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وتداعيات الإجراءات الاقتصاديَّة ورسوم الخدمات الحكوميَّة ورفع الدَّعم عن الخدمات الأساسيَّة، وزيادة أعداد الباحثين عن عمل في الأُسرة الواحدة والمُسرَحِّين من القِطاع الخاصِّ وتعقُّد الإجراءات والقروض البنكيَّة والرُّكود الاقتصادي وحالات الإفلاس في مشاريع الشَّباب المتعثِّرة والملاحقات القضائيَّة والقانونيَّة النَّاتجة عن التَّأخر في سداد المستحقات الماليَّة للأفراد والشَّركات والمؤسَّسات الماليَّة والبنوك وغيرها من المنغِّصات والمستنزِفات لجيب المواطن؛ بما يُتيحه من فرص أوسع للشُّعور الجمعي بالآخر، وفتح آفاق أوسع للأُسر في إعادة إنتاج موارها والاستفادة من قدرات أبنائها وتمكينها من الانتقال من وضع المنتظر للمعونة إلى إخراجها من هذه المظلَّة لِتثبتَ قدرتها على صناعة التَّغيير، فإنَّ المكانة الَّتي يحظى بها التَّكافل الاجتماعي كركيزة دينيَّة وسِمة إيمانيَّة، تجسِّد الإسلام العظيم، دِين التَّكافل والرَّحمة، والإنسانيَّة والإحسان والتَّعاضد والتَّعاون، أوصى بالإنسان خيرًا، وأمَر بالبِرِّ والإحسان، وكفالة الأيتام، ورعاية ذوي الحاجة، والوقوف معهم، وأسَّس مفهومًا حضاريًّا متكاملًا للتَّكافل الاجتماعي قائمًا على استشعار المسؤوليَّة، واحترام الآخر وتقديره والاعتراف بحقوقه، والتزام الواجبات نَحْوَه.
عَلَيْه، كان التَّعبير عن التَّكافل الاجتماعي كأيقونة للسَّمت العُماني ناتجًا عن استنطاقه جوهر المبادئ الَّتي جسَّدتِ الثَّقافة العُمانيَّة وعَبَّرَتْ عن حركة الحياة العُمانيَّة ومنطوقها الاجتماعي وتفاعلها الأُسري وانطلقتْ مِنْها الشَّخصيَّة العُمانيَّة في وفائها للآخر، مستنهضةً الرُّوح الوطنيَّة، مُجسِّدةً التَّكافل الاجتماعي والتَّآلف المُجتمعي في السُّلوك والممارسة المُجتمعيَّة، لِتُعَبِّرَ عن أعظم صوَر البناء والتَّنمية المُجتمعيَّة القائمة على تعظيم إنسانيَّة الإنسان، وهي تستشعر مسؤوليَّاتها الأخلاقيَّة وأمانتها التَّاريخيَّة على الأرض، في سُموِّها ورُقيِّها، وانتزاعها أنانيَّة النَّفْس وأثَرَة الذَّات، لِتتَّجهَ بإرادة واعيَّة، ورغبة أكيدة، وحسٍّ مسؤول، وصدقِ ضمير إلى خدمة الآخرين وعونهم، والوقوف معهم، ومساعدتهم بالمال والعتاد، في المَكْره والمَنْشط، وقضاء حوائجهم بكُلِّ صدقٍ وإيمان وثقة واختيار، محطَّات تأمُّل واستشعار للمسؤوليَّة ووقفات خالدة ماجدة، ومواقف عظيمة حقَّ لها أن تسجِّلَ بأحْرُفٍ من نور، حيثُ يتخلَّى فيها الفرد عن فوقيَّته، فيتماهَى مع المُجتمع بقلبِه وعقلِه وفكرِه وإنجازاتِه، فيقدِّم مصلحة الآخرين على نَفْسه، ويُنزِّه نَفْسه عن كُلِّ أشكال الأنانيَّة والأثَرة والغرور، وينزل من حاجز السُّلطة والفوقيَّة لِيشاركَ المُجتمع أهدافه وغاياته، ويضحِّي بوقتِه وجهدِه من أجْلِ إسعادهم، نافذة للحياة في ظلال الإسلام والسَّلام والأمن والإنسانيَّة والتَّسامح والوئام والرَّحمة والعطف والمسؤوليَّة والواجب، يستوعب الظُّروف الَّتي يمرُّ بها الآخر، ويقف على واقع التَّحدِّيات الَّتي يواجهها الآخر المختلف والمشترك.
وعِندَها تبقى الممارسات الإيجابيَّة النَّافذة الَّتي تسطِّرها بأحْرُف من نُور، منظومة التَّكافل الاجتماعي، شواهد إثبات، وثوابت إنجاز، حياة مُتجدِّدة للمُجتمع، وروحًا اتِّصاليَّة ممتدَّة بَيْنَ أبنائه، وصورةً عظيمة لمشهدِ التَّضحية والتَّسامح والسَّمْتِ الَّذي يُجلي من النَّفْس رانَ البُخل ويُنزِّه النَّفْس عن عار الأثَرَة والضن؛ فإنَّ مُجتمعًا يصنع من قِيَمه وأخلاقه ومبادئه وإنسانيَّته نموذجًا عمليًّا ونهجًا حكيمًا في التَّكافل والتَّعاضد ويستنطق خلالها قِيَم التَّعاون والتَّكافل الاجتماعي والتَّطوُّع واللُّحمة الوطنيَّة وحسَّ المسؤوليَّة، والتَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر، لا شكَّ بأنَّه بلغ أعلى درجات الوعي، وأسمى مرتبات الشَّرف، وأصدَق وأنْبَل بطولات التَّضحية والفداء، وهو بذلك مُجتمع يؤمن بالتَّكامليَّة والتَّعاون، ويتقاسم المشتركات في سبيل تحقيق نجاحاته وصون مكتسباته والمحافظة على درجة الخصوصيَّة لدَيْه وتعظيم الهُوِيَّة الوطنيَّة في مُكوِّناته، فيعيش أفراده في أمْن وأمان وسلام وطمأنينة يشدُّ بعضه بعضًا، فتتأصَّل بَيْنَ أفراده روح التَّكامل وقِيَم المودَّة والرَّحمة، والشُّعور الجمعي بما يحتاجه الآخر في سبيل تحقيق مسؤوليَّاته في المُجتمع ومشاركته في عمليَّات البناء والتَّطوير، لذلك جاءتِ التَّشريعات الوطنيَّة مؤكِّدةً على هذا النَّهج الإيماني العظيم والصورة المتوازنة الَّتي أصَّلها دِين الله القويم في تعظيم مفهوم العمل الاجتماعي والخيري وتنشيطه بَيْنَ أبناء المُجتمع وترقيته، وإيجاد المؤسَّسات والمنظومات الَّتي ترعاه وتحافظ على مكانته وتُعظِّم من شأنه وتصنع له حضورًا نَوعيًّا في مَسيرة التَّنمية والتَّطوير، وتقدِّم من خلاله شواهد عمليَّة ونتائج ملموسة على ما يصنعه التَّكافل الاجتماعي من فرص ويقدِّمه من بدائل ويُتيحه من خيارات ويضْمَنه من نتائج على صعيد الفرد والمُجتمع، لِيعيشَ النَّاس في ظلال مُجتمع التَّكافل، متعاونِينَ مُتحابِّينَ متعاطِفِينَ كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا.
من هنا تأتي أهميَّة تقوية منظومة التَّكافل الاجتماعي في المُجتمع، وتعزيز حضورها في فِقه المواطن، وترسيخها في سُلوكه، وتجسيدها في ممارساته، وتحفيزها في ذاته، وإعادة رسم ملامحها وقِيمتها في حياة الفرد الخاصَّة والعامَّة، وتشجيع النَّاس على تحقيقها بأريحيَّة تامة؛ كونها التزامًا ذاتيًّا، وإرادة مستمرَّة، ورغبة نابعة من شعور إنساني راقٍ، يمنح فيه الفرد الأمل للآخرين بحياة أفضل، ويقدِّم فيه العون والمساعدة بِدُونِ منٍّ أو أذًى استشعارًا بواجبه، وإدراكًا لمسؤوليَّاته، حتَّى تناغمتْ أفعاله مع روح هذا التَّحوُّل الَّذي يسري في نَفْسِه ثقةً وطمأنينة بأنَّ نتاج ذلك سيَعُودُ عَلَيْه بأفضل ممَّا كان، فثمرُه أفْضَل، وخيرُه أدْوَم، وفَضْله أعمُّ وأشملُّ، وإنتاجه أكثر وأوفر، وأعظم قِيمة، وتحقيق ذلك كُلِّه يستدعي اليوم توفير ممكناته، وتنويع خياراته، وتعزيز فرص نجاحاته، بحيثُ تتعدَّى مسألة التَّكافل الاجتماعي مساعدة الآخر في تجاوز الظُّروف الوقتيَّة، وتوفير المؤن والاحتياج له في أوقات المناسبات والأزمات بما يُتيح له فرص البقاء، ومساعدته في تجاوُز مِحنته الحاليَّة، بفكِّ كُربته والارتقاء بأخلاقه ورسْمِ الابتسامة في شفاه أبنائه؛ إلى العمل على مساعدته في الاعتماد على نَفْسِه، وتوفير الدَّعم له لِينجزَ مشروعه، ويبنيَ ذاته، ويستخدمَ مهاراته، ويُعِيدَ إنتاج واقعه، ويُعطيَ مثالًا للإنسان المكافح، المجتهد الواعي، السَّاعي لإصلاح نَفْسِه، والقادر على توظيف قدراته وشبابه ومهاراته وخبراته في تركِ بصمة له في الحياة، إنَّه نقل الفرد من الاتكاليَّة والاعتماد على الآخرين، والتَّسلُّق على عطاءاتهم، وانتظار صدقاتهم وإحسانهم وعطفهم، إلى أن يصنعَ من هذه المساحة الإيمانيَّة العظيمة، والإنسانيَّة النَّبيلة، منصَّة لتقديمِ الأفضل، والاستثمار في الفرص المتاحة، فإنَّ استنطاق قِيَم التَّكافل الاجتماعي واستنهاضها، وتعزيز حضورها في كُلِّ مواقع العمل والمسؤوليَّة، له أهميَّته في إعادة إنتاج الشَّخصيَّة العُمانيَّة الَّتي تصنع من الشَّراكة روحًا متغيِّرة تنتقل بها في عرصات المنافسة وميادين الإنجاز، كما يصحِّح النَّفْس من أمراض الشُّح والبُخل أو سُوء التَّصرُّف وتصحيح الثَّغرات الَّتي ارتبطتْ بجشع البعض وأنانيَّته والبحث عن المصالح الشَّخصيَّة، ليأتيَ التَّكافل الاجتماعي لِيزيلَ عن النَّفْس هذا الرَّان، ويؤسِّس فيها أصالة المسؤوليَّة، وقِيَم الخيريَّة، واستشعار عظمة الأمانة، والانتماء للمُجتمع، كما يصنع من الأزمات والمِحن اختبارًا للهُوِيَّة والسَّمْت العُماني في مواجهة هذه الظُّروف الصَّعبة.
أخيرًا، وفي ظلِّ ما أشَرنا إِلَيْه من صرخات واستغاثات القائمِين على العمل الاجتماعي الخيري ولجان الزَّكاة والفِرق الخيريَّة واللِّجان التَّطوعيَّة من حاجتها إلى الموارد والدَّعم الَّذي تقدِّمه لِتغطية الاحتياجات الأساسيَّة المتزايدة للأُسر المعسرة ومحدودة الدَّخل، يأتي التَّأكيد على أهميَّة حوكمة التَّكافل الاجتماعي الخيري، بما يَضْمن الابتكاريَّة والتَّنوُّع في موارده، والاستدامة في مصادره ووفرة أوردة الدَّعم المُقدَّمة من مؤسَّسات المُجتمع وأصحاب الأيادي البيضاء، بحيثُ تستوعب هذه المنظومة في مُكوِّناتها، المسؤوليَّة الاجتماعيَّة للشَّركات والقِطاع الخاصِّ، والصَّناديق الوقفيَّة، ومنظومة الحماية الاجتماعيَّة، والضَّمان الاجتماعي، والجمعيَّات الخيريَّة، ومبادرات اللَّجان المحليَّة بالولايات في المساهمة الفاعلة في رفد منظومة التَّكافل الاجتماعي، وفق إطار مؤسَّسي وتشريعي واضح المعالم، تقرأ خلاله منظومة التَّكافل الاجتماعي عَبْرَ رؤية عصريَّة تراعي الخصوصيَّة العُمانيَّة وتستوعب طبيعة الفئات المستهدفة ومستوى الاحتياج الاستهلاكي اليومي للأُسرة؛ بالإضافة إلى توليد صورة إيجابيَّة لدَى الأُسر، تستشعر فيه ما يقدَّم لها عَبْرَ هذه المنافذ، في احترام للمورد وتعظيم له وتقدير للجهود المبذولة فيه.
د.رجب بن علي العويسي