أيها الصائمون الكرام.. إن دروس معركة (أُحد) لا تنتهي، ولو خالف الرماة أمر رسول الله وانتصروا لقالوا خالفنا أمر رسول الله وانتصرنا، ولكن طاعة رسول الله واجبة علينا جميعًا، خاصة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حذّر من المخالفة، وقد انتهى بنا الحديث السابق عند نهي رسول الله للرماة أن تركوا أماكنهم مهما رأوا من نصر أو هزيمة، (وقد حذرهم أميرهم عبد الله بن جبير وقال لهم أنسيتم ما قال لكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم؟ فأبوا أن يطيعوه وقالوا والله لتأتين الناس ولنصيبن من الغنيمة فإن المشركين قد انهزموا فما مقامنا هنا؟ ولما رأى خالد بن الوليد خلاء الجبل الذي كان فيه الرماة وقلة أهله أتى من خلف المسلمين وكر عليهم بالخيل وتبعه عكرمة بن أبي جهل فوقع الاختلاط فيهم فضعفت عزائمهم، مما زاد ارتباكهم أن رجلًا اسمه قميئة الليثي قتل مصعب بن عمير وأذاع أنه قتل محمداً فانكشف المسلمون وقتل الذين ثبتوا في مكانهم من الرماة وهم دون العشرة وقتل أميرهم عبد الله بن جبير، وكان عدة الشهداء من المسلمين 70 رجلًا، وعدة القتلى من المشركين 23 رجلًا، وكان بين القتلى حنظلة بن أبي سفيان ووصل العدو إلى رسول الله وأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى وشجّ في وجهه وكلمت شفته السفلى وكان الذي أصاب رسول الله عتبة بن أبي وقاص والدم يسيل على وجهه وهو يقول:(كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم) فنزل في ذلك قوله تعالى:(لَيسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمرِ شَيءٌ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم أَو يُعَذِّبَهُم فَإِنَّهُم ظَلِمُونَ) (آل عمران ـ ١٢٨)، وثبت النبي وقت رجوع المسلمين ولم ينصرف عن موضعه وصار يرمي بالنبل ومعه أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار وأقبل أبيّ بن خلف يريد قتله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فتناول النبي حربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه فاحتقن الدم وكان ذلك سبب موته وهو عائد إلى مكة وهو الرجل الوحيد الذي قتل بيده ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم التمس رسول الله عمه حمزة فوجده وقد بقر بطنه وجدع أنفه وأذناه ثم أتى بالقتلى وأمر بدفنهم واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ولقد ساء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما رآه من التمثيل بحمزة فقال: لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم، ولما رأى المسلمون حزن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا والله لئن أظفرنا الله بهم يوما في الدهر لنمثّلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب، وأنزل في قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقول أصحابه (وَإِن عَاقَبتُم فَعَاقِبُواْ بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَير لِّلصَّرِينَ، وَٱصبِر وَمَا صَبرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِ وَلَا تَحزَن عَلَيهِم وَلَا تَكُ فِي ضَيق مِّمَّا يَمكُرُونَ) (النحل 126 ـ 127)، فعفا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونهى عن المثلة، وقال أصبرُ وأحتسبُ) (كتاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم 1/ 280 وما بعدها باختصار شديد).
وقد نهى عنه الدين الإسلامي الحنيف، لكنا نرى بعض جيوش الدول المتمدينة تقترف المثلة بأعدائها وهم يزعمون كذبًا أن الدين الإسلامي دين همجية ووحشية، ولقد أرت أن أختم بتعقيب فوجد من أجمل ما ورد في التعقيب على نهاية هذه الغزوة ما جاء في كتاب (من بلاغة القرآن، ص: 246): (صورت الآيات الكريمة الرسول في ميدان القتال، يرتب الجند، ويخص كل طائفة بمكان، ويعيّن موضع كل فريق من المعركة، كما أخذ الرسول يقوى روحهم المعنوية، فيحدثهم عن تأييد الله لهم بالملائكة ليطمئن قلوبهم، ويثبت أقدامهم، وليكون ذلك وسيلة لدحر الكفار، أو لتذكيرهم فيتوبون، وما قام به الرسول من دور هام في تنظيم قوى المؤمنين، وملء أفئدتهم بالأمل وروح الإقدام، فينهاهم عن الوهن والحزن، ويعدهم بالفوز إذا كان الإيمان الحق يملأ قلوبهم، ويحدثهم بأنهم إن كانوا قد أصيبوا فقد أصيب عدوهم بمثل ما أصيبوا به، ويحدثهم عن السر في انتهاء المعركة بما انتهت به، وأن ذلك وسيلة لتبين المؤمن الحق، وتمحيصه باختبار قاس، كهذا الاختبار الذي عانوه في معركة القتال، وأن كثيرًا من الأنبياء حدث لأتباعهم هزائم لم تضعف من عزيمتهم ولم تؤد بهم إلى الوهن والضعف والاستكانة، وهو بذلك يضرب لهم المثل الواجب الاقتداء، وبالصبر سيظفرون كما ظفر من سبقهم).. فاللهم انصر عبدك الصالحين في كل الميادين.
محمود عدلي الشريف