.. فالتقى العدول في الصيغة الصرفية، مع المقصد، والدلالة القرآنية، والهدف من سوقها على تلك البنية التي خالفتِ القياس، ومضتْ خادعة، آخذةً بيد الدلالة الصرفية، والسياقية، والقرآنية، فأدَّى العدولُ دورًا كبيرًا، ونهض لمعنًى لا تنهض له الصيغة الأصلية الصحيحة، وهي:(استحاذ)، كما سبق، وخدع بذلك اللغةَ مرتين؛ مرة بعدم إحداث الإعلال بالنقل، ومرة أخرى بتجاوز القيام بالإعلال بالقلب، وأوْهَمَنا بسلامة العمل، وصحة البنية، وصواب النطق، ويا لَجمالِ العدول في أداء المعنى القرآني الجليل الجديد، ولكنَّ أهل التفسير اكتفوا بأن قالوا:(إن استحوذ معناها الغلبة، والاستعلاء، والقوة عليهم، والإحاطة بهم) دون تحليل للصيغة، وبيان خداعها، وعدم مجيئها على قياسها، وإيهامنا أننا جاءت وفق قاعدتها، وأنها أساس وأصل في بابها، ومثله في الكتاب العزيز قوله تعالى:(الذينَ يَتَرَبَصُونَ بِكُم فَإِن كَاَنَ لَكُم فَتحٌ مِنَ اللهِ قَالوا أَلَم نَكُن مَعَكُم وَإِن كَاَنَ لِلكَافِرينَ نَصيبٌ قَالوا أَلَم نَستَحَوِذ عَلَيكُم وَنَمنَعَكُم مِنَ المُؤمنينَ فَاللّهُ يَحكُمُ بَينَكُم يَومَ القِيامَةِ وَلَن يَجعَلَ اللهُ لِلكَافِرينَ عَلَى المُؤمِنينَ سَبِيلًا) (النساء ـ ١٤١)، وبعدها مباشرة يقول الله تعالى:(إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهَوَ خاَدِعُهُم..)، فهنا خداعٌ من المنافقين الذين يريدون المكسبَ الدنيويَّ في كل مكان وزمان، ومع كل الشرائح: المؤمنة والكفرة، فهم مع المؤمنين يُظهرون خلاف ما يبطنون، ويمضون مع حدوث الخير، ومع حدوث الشر، آكلين على كل الموائد، حاصدين المال، والمنافع في كل وقت؛ نفاقًا، وخداعًا، وقلة فهم، وعدم رقابة لله في أعمالهم الآثمة، وسلوكياتهم المجرمة، ولا يتيقنون أن الله رقيب حسيب.
قال المفسرون:(يَتَرَبَصُونَ بِكُم) أي: ينتظرون ما يحدث من خير أو شر، فإن كان لكم فتح، أي: ظهورٌ على اليهود، قالوا للمؤمنين: ألم نكن معكم، أي: فأعطونا قسمًا من الغنيمة، وإن كان للكافرين ـ يعني اليهود ـ نصيبٌ، أي: ظَفَرٌ على المسلمين قالوا: ألم نستحوذ عليكم، يقال: استحوذ على فلان، أي: غلب عليه، وفي تفسير هذه الآية وجهان، الأول: أن يكون بمعنى: ألم نغلبكم، ونتمكن من قتلكم، وأسركم، ثم لم نفعل شيئًا من ذلك، ونمنعكم من المسلمين بأن ثبَّطناهم عنكم، وخيَّلنا لهم ما ضعفت به قلوبُهم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهاتوا لنا نصيبًا مما أصبتم، والثاني: أن يكون المعنى أن أولئك الكفار، واليهود كانوا قد هَمُّوا بالدخول في الإسلام، ثم إن المنافقين حذَّروهم عن ذلك، وبالغوا في تنفيرهم عنه، وأطمعوهم أنه سيضعفُ أمرُ محمدٍ، وسيقوى أمرُكم، فإذا اتفقتْ لهم صولةٌ على المسلمين، قال المنافقون: ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام، ومنعناكم منه، وقلنا لكم بأنه سيضعف أمره، ويقوى أمرُكم، فلما شاهدتم صدقَ قولنا، فادفعوا إلينا نصيبًا مما وجدتم، والحاصل أن المنافقين يمنُّون على الكافرين بأنا نحن الذين أرشدناكم إلى هذه المصالح، فادفعوا إلينا نصيبًا مما وجدتم، فإن قيل: لمَ سُمِّيَ ظفر المسلمين فتحًا، وظفر الكافرين نصيبًا؟!، قلنا: تعظيمًا لشأن المؤمنين، واحتقارًا لحظ الكافرين؛ لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم، تفتح له أبواب السماء، حتى تنزل الملائكة بالفتح على أولياء الله، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظٌّ دنيء، ينقضي، ولا يبقى منه إلا الذم في الدنيا، والعقوبة في العاقبة، ثم قال تعالى:(فالله يحكم بينكم يوم القيامة) أي : بين المؤمنين، والمنافقين، والمعنى أنه ـ تعالى ـ ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين، بل أخَّرَ عقابهم إلى يوم القيامة.
د. جمال عبد العزيز أحمد
جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية