من ألوان العدول ـ وهو الانحراف عن القياس، ومخالفة الظاهر، وعدم ورود اللفظ على أصل القاعدة ـ (العدولُ عن الصيغة الصرفية)، وعدم مجيئها على أصل قاعدتها؛ وذلك لحكمة، وقيمة بلاغية، وتربوية، وعقدية أخرى، يرمي إليها الكتاب العزيز، ومن ذلك قوله تعالى:(استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) (المجادلة ـ 19).
يذكر أهل التفسير في معنى تلك الآية الجليلة الآتي:(استحوذ عليهم الشيطان) أي: غلب، واستعلى، أي: بوسوسته في الدنيا، وقيل: قوي عليهم، وقال المفضل: أحاط بهم (أ. ه).
وكما نرى، فإنهم قد اكتفوا بالمعنى الظاهري للاستيحاذ، ولكنَّ الذي يتوقف عند تلك الصيغة الصرفية يجدها قد خالفت القياس الصرفي، وكان ـ وفق القاعدة ـ أن يقول:(استحاذ عليهم الشيطان)، بقلْب الواو ألفًا، وإجراء عمليتَيِ الإعلال بالنقل الذي يترتب عليه الإعلال بالقلب، نحو: استقال، واستقام، واستمات، واستعار، واستجاد، واستجاب.. ونحوها، بحصول تغييرين صرفيين اثنين، هما الإعلال بالنقل بين حركة الحاء ـ وهي الفتحة ـ وسكون الواو، فتصير من (اِسْتَحَوْذَ) إلى (اِسْتَحْوَذَ)، ثم يقال: تحركت الواو باعتبار الأصل، وانفتح ما قبلها باعتبار الحال، فقلبت الواو ألفًا، فصارت:(استحاذ)، ولكنَّ شيئًا من ذلك لم يتمَّ، وجاءت الصيغة الصرفية محققةَ الواوِ غيرَ منقلبة إلى ألفٍ، كبقية كلمات اللغة التي على الشاكلة نفسها،(التي مثلنا لها من قبل)، وظلت البِنْيَةُ بتمامها من غيرِ ما تغيير، ولعل الحكمة في ذلك ـ في تحليلي ـ هي بيان ارتباط الصيغة بالدلالة التي سيقت لها، وهي أن الشيطان ذكيٌّ، خَدَّاع، دخل على هؤلاء، فغير عقولهم، وأوقف تفكيرهم، وتغلَّب عليهم بخداعه، ووسوسته، حتى ألغى عقولهم، وأفهمهم أنهم على صواب، وأن مسلكهم صحيح، وضَحِكَ عليهم متفنِّنًا في إلغاء عقولهم، ومشيهم، وسَدْرِهِم في غيِّهم، فصاروا يرون الشرَّ خيرًا، والمعصية رشادًا، والخطأ صوابًا، والبعد عن الله حقًّا، وأصلًا أصيلًا، وتنكُّبَ الطريق هو صحته، كأنهم يسيرون مُكِبِّينَ على وجوههم، ويفكرون بأرجلهم، وأقدامهم غير معتدلين، ولا مستقيمين، يرون الاعتدال استقامة، والباطلَ حقًّا، والاعوجاجَ صلاحًا، وأدخل عليهم الشيطان صوابَ ما يفعلون، وأيقن في قلوبهم سُمُوَّ ما يصنعون تمامًا، كما وردت الصيغة الصرفية للكلمة على غير وفاق القاعدة؛ إيهامًا بأنها قد جاءت على قياسها، وأصلِ وضعِها، فتلاقى ورودُها على غير القياس مع هدف الآية، ودقة دلالتها، ومَرْمَى معناها، فكما أنه خدعهم، ودخل عليهم بخيله، ورجله، وأوهمهم بصواب عملهم، وصحة سلوكهم ـ رغم معصيتهم الواضحة، وبعدهم الكاشف عن ضيق عطنهم، واهتراء تفكيرهم، وضعف عقيدتهم ـ فكذلك جاءت الصيغة مخالفةً للقياس الصرفي، وكأنها تضربُ بأطنابها في دقة القاعدة، وخداعهم بأنها قد قصدتْ كمال الضابط، ودقة القياس، فهي في خداع، وإيهام، وضَرْبٍ من الضحك بالعقول، مع أنها قمةُ المخالفة، وضربتْ بالقاعدة عرض الحائط، ومضت بجرأة غير معهودة على أنها الصواب والقياس، كما يفعل الشيطانُ بالعصاة؛ حيث يُدْخِلُ عليهم أنهم على صواب، وأنهم أصحاب الطريق الصحيحة، بوسوسته، ويظل معهم حتى يقنعهم بسلامة سلوكهم، وصلاح عملهم، واستقامة طريقهم، فيظلون طيلة حياتهم غافلين، وعن طريق الحق متنكِّبِين، وهم لدى الغفلة، والمعصية قابعون، وفي طريق الباطل والبعد عن الله سائرون، ولا يدرون أنهم في طريق المعصية، وغضب الله ماضون؛ خداعًا من الشيطان، كما استلب جمال القاعدة، ودقة القياس، ومضى بوسوسته على جميعهم، وأنام عقولهم، وأوهمهم أنهم على الجادة والصواب متربِّعون، وفي قمة الحق جالسون.
د. جمال عبد العزيز أحمد
جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية