الأحد 23 فبراير 2025 م - 24 شعبان 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : أخرجوا التعليم من تنظير المدارس والجامعات إلى تطبيقات المصانع ومعامل الإنتاج

في العمق : أخرجوا التعليم من تنظير المدارس والجامعات إلى تطبيقات المصانع ومعامل الإنتاج
السبت - 22 فبراير 2025 01:42 م

د.رجب بن علي العويسي

20


جاء في لقاء حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ ببعض طلبة محافظة مسقط في أثناء زيارته لمدرسة السُّلطان فيصل بن تركي للبنين بولاية العامرات بمحافظة مسقط في الخامس والعشرين من نوفمبر لعام 2024 تأكيد جلالته على ضرورة الانتقال بالتَّعليم من التَّنظير إلى التَّطبيقات العمليَّة والابتكار وريادة الأعمال والتقنيَّات المتقدمة، كما حدَّد المرسوم السُّلطاني رقم (6/2024) في شأن قِطاع التَّدريب المهني بأن يسندَ إلى وزارة العمل الاختصاصات المتعلقة بالتَّدريب المهني نقلًا من وزارة التَّعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، مع التَّأكيد على ربط التَّدريب التِّقني والمهني باحتياجات سُوق العمل وتطوير المناهج التَّعليميَّة وفقًا للمعايير والمستويات المهنيَّة المعتمدة، ومنح المؤهلات وتشجيع التَّدريب على رأس العمل، وفي وقت سابق لذلك وجَّه جلالة السُّلطان المُعظَّم في ترؤُّسه لاجتماع مجلس الوزراء في السَّادس والعشرين من فبراير لعام 2023 بـ»أهميَّة تعزيز المحتوى المحلِّي للصِّناعات العُمانيَّة وإعداد سياسات وطنيَّة حَوْلَها، بهدف تقليل الواردات وزيادة الصَّادرات، مع التَّركيز على المشاريع الَّتي تُسهم في تحقيق قِيمة مضافة للاقتصاد الوطني وتوفير فرص عمل للمواطنين.

إنَّ مقاربةً بَيْنَ هذه المحطَّات الثَّلاث ما يؤسِّس لمرحلة متقدِّمة في مَسيرة التَّعليم بسلطنة عُمان والانتقال به من التَّنظير والاجترار والتكراريَّة إلى التَّطبيق والممارسة المبتكرة وتوجيهه إلى المصانع وبيئات العمل ومعامل الإنتاج وميادين التَّجربة والابتكار، ودعوة سامية من لدُن جلالته نَحْوَ إنتاج المتعلم العُماني اقتصاديًّا والدُّخول به في عُمق المنافسة؛ لبناء ثقافة اقتصاديَّة متوازنة، تَقُومُ على تعظيم إنتاجيَّة التَّعليم عَبْرَ مناهجه وأنشطته وبرامجه ومنح الممارسة الاقتصاديَّة والماليَّة والنَّشاط الابتكاري والمواهب الَّتي يتمُّ صقلها في بيئة المدرسة حضورًا نَوعيًّا في بيئة التَّعليم والتَّعلُّم، وعَبْرَ تأصيل ثقافة العمل الحُر، وريادة الأعمال والمؤسَّسات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة وإدارة المشروع الاحترافي، والشَّركات الطلابيَّة والنَّاشئة، خلق اقتصاد عُماني أكثر نضجًا وانفتاحًا وتركيزًا على الاستثمارات الحقيقيَّة النَّابعة من عُمق التَّجارب والتَّطبيقات العمليَّة الَّتي تؤسِّسها المصانع نظرًا للمردود الاقتصادي والعائد المادِّي والفرص التشغيليَّة الَّتي تطرحها، فإنَّ ضرورات الاتِّجاه إلى اقتصاد الصِّناعة العُمانيَّة يمثِّل اليوم خيارًا استراتيجيًّا وطنيًّا؛ نظرًا لارتباطه بعُمق المُشْكلة الوطنيَّة ممثلة في ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمسرَّحِين من القِطاع الخاصِّ، ومفهوم العَرض والطَّلب في سُوق العمل المحلِّي، وموقع القِطاع الخاصِّ من المنظومة الاقتصاديَّة، والصُّورة غير المريحة الَّتي باتَ يسقطها حَوْلَ مخرجات التَّعليم المدرسي والعالي العُمانيِّين، وتصبح الصِّناعة الطَّريق الآمن ـ رغم المخاطر ـ لاقتصاد مستدام ومتنوِّع، تُسهم في تحريك الماء الرَّاكد عَبْرَ ما تثيره من فرص التَّجدُّد في الكفاءة الوطنيَّة ومهاراتها والتَّنوُّع في الخيارات والبدائل المطروحة، وضمان التَّكيُّف مع احتياجات المواطن وأولويَّاته، فإنَّها في المقابل تُعزِّز من الأمن الاقتصادي والاستدامة، عَبْرَ وجود مُجتمع صناعي واعد، ومواطن يتقن مهارات الصِّناعة ويستنطقها في مبادراته وقدراته واستعداداته، فيعتمد على نَفْسه ويسوِّق لذاته، ويستنهض روح العطاء لدَيْه، ووجود نظام تعليمي منتِج ومسؤول، يصنع روَّاد أعمال، ويشجِّع المؤسَّسات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة على الاستثمار في الصِّناعات التَّحويليَّة والأنشطة الواعدة والتَّخصُّصيَّة، كما يَضْمن في مناهجه نُموَّ المهارات النَّاعمة والتقنيَّة الَّتي تحتاجها المصانع.

وبالتَّالي الانطلاقة من التَّعليم في إنتاج هذا النّموذج الاقتصادي القائم على تعظيم المهارات، وتنشيط حركة المعرفة والمحتوى المهني والتِّقني في بيئات التَّعلُّم ومناهج التَّعليم ورفع مستوى إدماج المفاهيم الاقتصاديَّة والخبرات والتَّجارب العمليَّة في سبيل إنتاج مواطن قادر على التَّكيُّف مع مستجدَّات الواقع الاقتصادي ويترك بصمة حضور له في انتعاش الاقتصاد الوطني ليصبحَ اقتصاد المصانع الطَّريق الأمثل لصناعة القوَّة الاقتصاديَّة، مع القناعة بأنَّ مسألةَ التَّنويع في المسارات التَّعليميَّة لا تعني إضافة مواد مهنيَّة أو أخرى تتعلق بالبعد الاقتصادي والاستثماري فحسب، بل أن تراعي هذه المسارات امتدادًا أعمق للتَّوازن في بناء الشَّخصيَّة العُمانيَّة، والتَّنوُّع في مسار التَّخصُّصات والوظائف والبنى التَّطويريَّة لمؤسَّسات التَّعليم العالي الحكوميَّة والخاصَّة وجامعة السُّلطان قابوس، سواء فيما يتعلق وإنتاج القدرات الوطنيَّة بالتَّخصُّصات المهنيَّة والتقنيَّة والفنيَّة، والزِّراعيَّة، والصِّناعيَّة، وريادة الأعمال؛ لذلك كان إقرار مقترح الخطَّة الدراسيَّة لطلبة التَّعليم المدرسي بالتَّركيز على المهارات وإضافة بعض المواد المهنيَّة، والبرنامج الدِّراسي لتطبيق التَّعليم التِّقني والمهني، خطوة مهِمَّة، بحاجة إلى ضمانات لنجاحها في الواقع، وموجّهات تشريعيَّة ورقابيَّة وتقييميَّة داعمة من داخل وزارة التَّربية والتَّعليم وخارجها وبمشاركة القِطاع الخاصِّ ومؤسَّسات الأعمال في ضبط مسار هذه الخطَّة وتوجيه بوصلتها نَحْوَ تحقيق الأهداف الوطنيَّة العُليا، وتجسيد عملي لها في الواقع الفعلي مع توفير الممكنات الماليَّة والتَّدريسيَّة والتَّشغيليَّة ونقل عمليَّة التَّدريس من التَّنظير الفلسفي إلى التَّطبيقات العمليَّة وتعظيم دَوْر المختبرات العلميَّة ومراكز التَّطبيقات المعمليَّة ونُظم المحاكاة والتَّجريب، لضمان استدامة كسب الثِّقة في مخرجات الدبلوم العام، سواء من خلال مؤسَّسات التَّعليم العالي وسُوق العمل في ظلِّ طوابير تكدس الخريجين، أو تلك الَّتي ما زال يشكك فيها رجال الأعمال وأصحاب الشَّركات، أو يتحدث عَنْها بعض المسؤولين بالدَّولة، فهي خطوة يَجِبُ أن تتبعَها إجراءات على الأرض وسياسات ناضجة تشريعيَّة ومهنيَّة مدركة من القِطاع الخاصِّ ومؤسَّسات الاقتصاد والمال الحكوميَّة في سبيل توظيف فرص الاستفادة من هذا التَّوَجُّه في بعثِ روح التَّغيير في القدرات الوطنيَّة وتوجيه الإرادة العُمانيَّة نَحْوَ الدُّخول في عُمق التَّجربة وأرضيَّة الواقع. وعَلَيْه فإنَّ دخول التَّعليم وتكامله مع منظومة التَّشغيل والتَّوظيف والتَّدريب سوف يُسهم في إعادة بناء منظومة التَّشغيل وفق ممكنات ومرتكزات أكثر قدرة على استيعاب التَّطوير الحاصل في بيئة المصانع والأجهزة والمعدَّات الصُّلبة أو النَّاعمة الَّتي يدخل فيها جانب التَّسويق وتقييم العَرض والطَّلب والمعايير والمواصفات الفنيَّة، لاعتمادها على أُطُر فلسفيَّة واضحة ودقيقة تحدّد ماذا يريد القِطاع الخاصِّ من التَّعليم، وكيف يُمكِن للتَّعليم أن يُسهمَ في صناعة التَّحوُّل في القِطاع الخاصِّ وإعادة إنتاجه بما يخدم منظومة العمل.

من هنا فإنَّ نجاح منظومة التَّشغيل والتَّوظيف، في تحقيق أهدافها لسدِّ الخلل النَّاتج عن تزايد أعداد الباحثين عن عمل والمسرَّحِين من أعمالهم، والحدّ من ارتفاع أعداد الوافدين وسيطرة هذه العمالة على سُوق العمل والقِطاع الخاصِّ والأهلي، وإعادة هيكلة هذه القِطاعات وفق مدخلات الإحلال اللائق وصناعة الوظائف المستدامة، وتصحيح حالة التكراريَّة والازدواجيَّة في التَّخصُّصات الأكاديميَّة في مؤسَّسات التَّعليم العالي، ثم تأكيد التَّنويع في المسارات التَّعليميَّة وإيلاء التَّعليم المهني والتِّقني حضورًا أكبر في ثقافة الشَّباب والمُجتمع وتقديم الحوافز المعزّزة لهذا التَّوَجُّه، كُلُّ ذلك وغيره مرهون بقدرة المنظومة التَّعليميَّة في جميع مراحلها ومستوياتها على إحداث التَّغيير في السُّلوك المهني لمخرجات التَّعليم المدرسي والعالي، الَّذي سينعكس على قناعات المواطن في الوظائف وسُوق العمل وثقته في القِطاع الخاصِّ والأهلي، وكُلَّما استطاعتْ مؤسَّسات التَّعليم أن تؤسِّسَ نماذج تطبيقيَّة محاكاة للواقع، وتقدِّمَ ممكنات مهاريَّة قويَّة، عَبْرَ ما تولِّده من طاقة إيجابيَّة نَحْوَ العمل وأخلاقيَّاته وقوانينه ونُظمه وثقافة العمل، سهَّل ذلك على القِطاع الخاصِّ ومؤسَّسات العمل في الوصول إلى أهدافها، غير أنَّ هذه النَّظريَّة مرتبطة أيضًا بمسار المواءمة والتَّوَسُّع الحاصل فيها، والقوَّة الأدائيَّة النَّاتجة عَنْها، والتَّقارب الفكري والمهني والموضوعي بَيْنَ مؤسَّسات التَّعليم والعمل، بما يستدعيه من خطوات استباقيَّة تَقُومُ على استقراء موسَّع لمستوى التَّطوُّر الحاصل في القِطاع الخاصِّ وسُوق العمل، سواء من حيث طبيعة الأعمال والأنشطة المستجدَّة الَّتي يتعامل معها القِطاع الخاصُّ وقِطاع الأعمال والرّيادة، وسقف المعايير الَّتي تحتاجها الوظائف المطروحة في الحكومة والقِطاع الخاصِّ. فإنَّ تعظيمَ السُّلوك المهني الرّيادي في رائد الأعمال وأصحاب المؤسَّسات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة يرتكز على الشّحنات والدّعامات الفكريَّة والمهنيَّة والمفردات الاقتصاديَّة الَّتي اكتسبها في مقاعد الدِّراسة حَوْلَ طريقة إدارة الموارد وتنفيذ وإدارة المشاريع والتَّعامل مع الأزمات، وترتيب أوضاع المؤسَّسة من جديد، لِتظلَّ حاضرةً تتجسَّد في ممارساته المهنيَّة وتدفعه بصورة مستمرَّة إلى إضافة النَّكهات التَّطويريَّة والتَّجديديَّة لممارساته القادمة.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]