الأحد 23 فبراير 2025 م - 24 شعبان 1446 هـ
أخبار عاجلة

الصين .. ثورة علمية واقتصادية متنامية ترعب الغرب «3-6»

الصين .. ثورة علمية واقتصادية متنامية ترعب الغرب «3-6»
السبت - 22 فبراير 2025 01:39 م

سعود بن علي الحارثي

20


ثالثًا: السُّور العظيم، أسطورة بكين وتاج حضارتها.

يَعُودُ تاريخ بكين إلى ما قَبل «ثلاثة آلاف عام»، إلى الماضي الموغل قدمًا، بعد أن تغلَّب أحَد الأباطرة في حروب شرسة، على التَّنانين الشِّريرة الَّتي كانتْ تسكنها، كما تقول أُسطورة تشكّل وبناء المدينة، والتَّنانين الشِّريرة، مُكوِّن أساسي في الثَّقافة والتَّاريخ والتَّقاليد الصينيَّة، وترد كثيرًا في السينما وأفلامها في صراع دائم بَيْنَ الشَّر والخير. تتمتع بكين، بموقع استراتيجي أخَّاذ، تحيط بها الجبال من ثلاث جهات، ويحميها سُور الصين العظيم إحدى عجائب العالَم الَّذي تتوق الملايين لزيارته، وجعل من العاصمة الصينيَّة واحدة من أهم الوجهات السياحيَّة في العالَم، بجانب حشد من القصور الفخمة والحدائق الفاتنة، والمقابر والأسوار والبوابات والمعابد والمتاحف الوطنيَّة ومواقع عديدة مصنَّفة ضِمن «التُّراث العالَمي لليونسكو»، لتشكِّلَ مُجتمعةً، ثروة تاريخيَّة وحضاريَّة وثقافيَّة وسياحيَّة واقتصاديَّة هائلة. شهدتْ بكين أحداثًا سياسيَّة فارقة وتحوُّلات اقتصاديَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة عميقة وحروبًا وصراعات مدمِّرة، وتعرَّضتْ لغزوٍ بريطاني ـ فرنسي، وياباني فيما بعد، ما تسبب في تدمير جزء من آثارها التَّاريخيَّة، وتعاقب على حُكمها عددٌ من السّلالات والامبراطوريَّات والممالك الَّتي تركتْ آثارًا عظيمة وصروحًا عجيبة ومقتنيات وتحفًا فنيَّة نادرة، فالإرث الحضاري الضَّخم والتَّقدُّم السَّريع الحديث هما سرُّ قوَّة الصين اليوم، وقلَّما نجد بلدًا يجمع بَيْنَهما بهذا الغنى والقوَّة والعظمة والتَّوظيف النَّاجح... بدأ ملوك الصين في بناء سُورها العظيم قَبل أكثر من ألفَي سنَة، لحماية البلاد من الهجمات المغوليَّة والتركيَّة، وتواصلتْ مراحل استكماله عَبْرَ حقبٍ لاحقة، عابرًا تضاريس جغرافيَّة متنوِّعة، معقَّدة وشرسة للغاية، تتشكل من الجبال والجرف والصحارى والمروج والأنهار والأحراش... وتطلبتْ كُلُّ طبيعة مِنْها خليطًا من مواد البناء وأساليبه وهندسته المعماريَّة، تتناسب معها لضمان صموده، إنَّه «مشروع دفاعي عسكري نادر في التَّاريخ المعماري البَشَري»، فهو بحقٍّ «رمز للأُمَّة الصينيَّة»، ويتكونُ من «الحيطان الدِّفاعيَّة وأبراج المراقبة، والممرَّات الاستراتيجيَّة وثكنات الجنود وأبراج الإنذار...». هو «نظام قيادي عسكري متكامل»، وأهم مواقع التُّراث العالَمي، ومن عجائب الدُّنيا السَّبع. المؤثِّر الآخر، في تاريخ الصين، الفيلسوف الكبير «كونفوشيوس»، أحَد أعظم الشَّخصيَّات في البلاد، الَّذي لا يُمكِن تجاهله، ويُعَدُّ تاريخيًّا نبي الأُمَّة (الصينيَّة)، فالتَّقاليد الصينيَّة في السُّلوك والأخلاق والدِّين والاجتماع تستند إلى أقوال وفلسفة كونفوشيوس، الَّذي ولد في ٥٥١ قَبل الميلاد، وقضَى مُعْظم حياته في التَّدريس والتَّبشير بتعاليم فلسفته الَّتي ترَى أنَّ الإنسان «ليس شريرًا بطبعه، بل هو طيب الجوهر وحسن العنصر، فإذا رُبي تربية صالحة أصبح إنسانًا خيرًا ومواطنًا كريمًا...». في لحظات ملهمة ومدهشة، محقِّقة لحلمٍ طالما راودني وألحَّ علي، ها أنا أتجوَّل برفقة أفراد أُسرتي داخل سُور الصين العظيم، أتفكَّر وأتأمل إنجازات الأُمم وقوَّة وإرادة الإنسان ودروس التَّاريخ، ونهاية الممالك والملوك، بعد جبروت وطغيان واستعباد للبَشَر، وعبَث الصِّراعات الَّتي لا طائل مِنْها، وإهدار فرص الاستعبار والاستفادة والتَّعلُّم... نطلُّ من هذه الأبراج على مناظر بانوراميَّة لحشدٍ هائل من الجبال والتِّلال والغابات الجافَّة بسبب البرد القارص، من فوق سُور الصين العظيم، إحدى عجائب الدُّنيا، وأعظم إنجاز بنائي حقَّقه الإنسان، وأبرز أثَر تاريخي حضاري، ومحلّ اعتزاز شَعبها، حامَ حَوْلَه الكثير من الأساطير، كمقتل أكثر من عشرة ملايين من العمَّال قضوا في تشييده وتمَّ دفنهم في مواقع البناء، واستغراق أكثر من ألفَي سنَة إلى أن اكتمل إنجازه، وطوله الَّذي يرجَّح بَيْنَ أكثر من عشرين ألف كيلومترًا إلى ستَّة آلاف، الحقيقة الَّتي لا يخامرها الشَّك، أنَّ مَن يزوره ويراه تتبَيَّن له أعجوبته، يصيب المرء بالإدهاش والذهول، كيف لا؟ وبَيْنَ كُلِّ مئة وخمسين مترًا، يظهر برج مراقبة فريدة في طرزها واختيار مكانها، تشرف على الجهات الأربع للموقع، ويواصل السُّور مَسيرته في قمم الجبال وبَيْنَ الجروف وفي الصحاري ويخترق الغابات ويعبر الأنهار... وعربات التلفريك الَّتي حمَلتنا من المحطَّة الأرضيَّة إلى الجبليَّة المحاذية للسُّور منحتنا فرصة استطلاع مساحات واسعة لمساراته في القمم العالية والمنخفضة، وأبراج المراقبة في عشرات المحطَّات الَّتي تقدِّم هذا المَعْلم باعتباره منجزًا إنسانيًّا عالي القِيمة يستحق فعلًا أن يتجشم أكثر من خمسين مليون إنسان الجهد لمشاهدته، كما أنَّ الصوَر الَّتي يلتقطها السيَّاح من المكان تظلُّ ذكرى يعتزون بها للاستدلال على زيارة أجمل الآثار في العالَم وأكثرها إدهاشًا وإبهارًا... القصر الصَّيفي الَّذي بُني بأوامر الإمبراطور «هايلنج الجيني»، من أُسرة «جين»، في عام ١١٥٠م، هو الآخر، بحدائقه الشَّاسعة الغنَّاء، وإطلالاته الجاذبة للبهجة وانشراح النَّفْس، على بحيرة «كونمنج»، وجَماله المعماري الصِّيني التَّقليدي، الَّذي يحكي تقاليد الحياة وأساطيرها عِندَ الصينيِّين، ولوحاته الجماليَّة العديدة، يفصح عن تاريخ عريق وازدهار لافت للمالك والأُسر الَّتي حكمتِ الصين في أزمنتها القديمة، وقد سُجّل القصر ومنشآته، وبحيراته ضِمن مواقع التُّراث العالَميَّة النَّادرة... أمَّا الحديقة أو القرية الأولمبيَّة، بتصاميمها الفريدة، ومرافقها الرِّياضيَّة والتَّرفيهيَّة العجيبة ـ ملعب بكين الوطني أو العش الطَّائر الَّذي احتضن الألعاب الأولمبيَّة الصينيَّة في ٢٠٠٨م ـ متحف التكنولوجيا ـ متحف بكين للفنون، وغيرها الكثير، بجَمالها المعماري العصري، وفخامة مبانيها، وعظمة دلالاتها ترمز لقوَّة وتقدُّم الصين، والغرض الَّذي من أجْلِه شُيِّدت بهذا الإبهار، جميعها تستحقُّ أن تزارَ من قِبل السَّائح، ومن قِبل المسؤولين في بلداننا العربيَّة لتبادل الخبرات والاستفادة ممَّا بلَغتْه هذه الدَّولة في الازدهار العلمي... فالشَّعب الصيني يحقُّ له أن يفاخرَ بإنجازاته ويتباهَى بعظَمة مساهماته المؤثِّرة والفعَّالة، في الثَّورات العلميَّة، وما قدَّمه للإنسانيَّة من صناعات وابتكارات في مختلف المجالات والحقول، في الصِّناعات والتكنولوجيا والفضاء والطِّب والوراثة... وقيادة الصين، بثقة واقتدار لتتبوأ مقاليد القيادة في القرن الحادي والعشرين، وتتقدم لتكُونَ نموذجًا في تحقيق ما أقرَّته من خطط وبرامج، تطلُّعات وأهداف، ثم القدرة على تفتيت العوائق والحواجز والصُّعوبات، لقَدْ تآمَرَ الغرب ووقف بكُلِّ قوَّته وتهديداته وتجييشه للسِّياسات والقرارات والرُّسوم والضَّرائب لوقفِ تقدُّم الصين، وذلك قَبل نصف قرن تقريبًا، ولم ينجح في تحقيق أهدافه؛ لأنَّ الصين تمتلك أدوات ووسائل النَّجاح ولدَيْها الإرادة الصُّلبة والعزيمة الحازمة، أمَّا الأُمم الفاشلة فلن تتمكنَ من التَّقدُّم خطوةً واحدة إلى الأمام؛ لأنَّها افتقدتْ تلك الوسائل، وظلَّتْ ترمي بأسباب تخلُّفِها لمؤامرات الآخرين، بدلًا من أن تقتفيَ أثَر النَّاجحين وتضعهم نموذجًا لنهضة مستقبليَّة لا تقف أمامها العراقيل مهما كانتْ... «يتبع».

سعود بن علي الحارثي

[email protected]