الأحد 23 فبراير 2025 م - 24 شعبان 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : «كوفيد-19» درس لم يستوعبه العالم بعد

السبت - 22 فبراير 2025 06:35 م

رأي الوطن

10


تغيَّر العالَم إلى الأبد بعد جائحة كورونا «كوفيد-19»، فلم يَعُدْ كما كان قَبلها، ولن يَعُودَ أبدًا. فقَدْ فرض الفيروس اختبارًا قاسيًا على الجميع، ليس فقط من حيث الصحَّة، ولكن في صميم القِيَم الإنسانيَّة، وحتَّى التَّعاون الدّولي، لقَدْ كان من المفترض أنْ تكُونَ هذه الكارثة درسًا يُستفاد مِنْه لبناء عالَم أكثر استعدادًا للأزمات، لكنَّ الواضحَ أنَّ هذه الاستفادة لم تكُنْ بالقدر الكافي، فبدلًا من أنْ تدفعَ الجائحة الدوَل إلى العمل المشترك، كشَفتْ عن مدَى عُمق الأنانيَّة الوطنيَّة والمصالح الاقتصاديَّة الَّتي تتغلب على أيِّ اعتبار آخر، فلم يكُنِ الضحايا فقط مَنْ فقدوا حياتهم، بل أيضًا مَن أدركوا أنَّ الإنسانيَّة ـ رغم كُلِّ ما تدَّعيه من تطوُّر ـ لا تزال متردِّدةً عِندَما يتعلَّق الأمْرُ بإنقاذ الأرواح على حساب السِّياسة والمصالح الضيِّقة. وبَيْنَما حذَّرتْ منظَّمة الصحَّة العالَميَّة مرارًا من احتماليَّة تكرار مِثل هذه الأزمات، بدَا أنَّ الحكوماتِ عاجزةٌ عن تحويل التَّحذيرات إلى خططِ عملٍ ملموسةٍ، ممَّا يجعل العالَم عرضةً لتكرار المأساة. فالاستعداد الحقيقي لا يكمن في ردِّ الفعل عِندَ وقوع الكارثة، بل في اتِّخاذ تدابير استباقيَّة تُعزِّز الاستجابة الفعَّالة لأيِّ وباءٍ قادم.

في أعقاب الأزمة ظهرَ توجُّه عالَمي لإنشاء معاهدة تضمن استعدادًا أفضل للأوبئة، حيثُ انطلقتِ المفاوضات في ديسمبر 2021 بهدف التَّوَصُّل إلى اتِّفاق يفرض تبادل المعلومات حَوْلَ الفيروسات وتوزيع اللّقاحات والعلاجات بشكلٍ أكثر إنصافًا، وكانتِ الفكرة تحمل في جوهرها أملًا جديدًا، لكنَّه سرعان ما اصطدم بجدران البيروقراطيَّة والصِّراعات السِّياسيَّة. فمنذُ البداية تعثَّرتِ المحادثات بسببِ خلافات حَوْلَ تقاسم المنافع والالتزامات، وكأنَّ العالَمَ لم يتعلَّمْ شيئًا من جائحة «كوفيد-19»، ورغم تحذيرات منظَّمة الصحَّة العالَميَّة من أنَّ التَّأخُّرَ في إبرام الاتِّفاق سيجعل الاستجابة للأوبئة القادمة أكثر صعوبةً، فإنَّ عددًا من الدوَل لا يزال مترددًا في تقديم التزامات حقيقيَّة، وبَيْنَما تتزايد المخاطر الصحيَّة عالَميًّا، يواصل المُجتمع الدّولي التَّعامل مع الأزمات بروحٍ آنيَّة دُونَ استراتيجيَّة بعيدة المدَى، وإذا كانتِ الجائحة السَّابقة قَدْ كشَفتْ هشاشة النِّظام الصحِّي العالَمي، فإنَّ العجز عن التَّوَصُّل إلى اتِّفاق شامل يؤكِّد أنَّ هذه الهشاشةَ لا تزال قائمةً، ما يزيدُ منِ احتمالات تكرار الأخطاء نَفْسها في المستقبل.

كان الأملُ معقودًا على أنْ تدركَ القوى الكُبرى أنَّ مصلحتَها الحقيقيَّة تكمن في بناء نظام صحِّي عالَمي متماسك، لكن ما حدَث كان عكس ذلك، فقَدْ أدَّتْ إدارة ترامب دَوْرًا محوريًّا في تعميق الانقسامات، حيثُ انسحبت الولايات المُتَّحدة من منظَّمة الصحَّة العالَميَّة في ذروة الجائحة، متذرِّعةً بانحياز المنظَّمة إلى الصِّين، وهو ما تركَ فراغًا سياسيًّا خطيرًا وأضعفَ الجهود الدّوليَّة لمكافحة الوباء. ورغم أنَّ الإدارةَ الأميركيَّة التَّالية عادتْ إلى المنظَّمة وأعادتْ دعمَها، فإنَّ تداعيات الموقف الأميركي ما زالتْ تؤثِّر على المفاوضات بشأن معاهدة الأوبئة، وفي ظلِّ هذه التَّحدِّيات، جاء تحذير منظَّمة الصحَّة العالَميَّة مجدَّدًا من أنَّ البطءَ في التَّوَصُّل إلى اتِّفاق يعكس عدم الجديَّة في التَّعامل مع الدُّروس المستفادة من الأزمة، ما يهدِّد بتكرار سيناريوهات العجز الَّتي شهدها العالَم سابقًا، كما أنَّ استمرار الجدل حَوْلَ استقلاليَّة منظَّمة الصحَّة العالَميَّة عن الضُّغوط السِّياسيَّة يؤكِّد أنَّ التَّحدِّياتِ ليسَتْ فقط في الوصول إلى اتِّفاق، بل في ضمان تنفيذه بعيدًا عن النُّفوذ السِّياسي والاقتصادي للدوَل الكُبرى، فتأمين الصحَّة العامَّة لا يُمكِن أنْ يكُونَ رهنًا لحساباتٍ ضيِّقة، بل يَجِبُ أن يكُونَ مسؤوليَّةً جماعيَّة تتجاوز الحسابات السِّياسيَّة التَّقليديَّة. إنَّ معاهدةَ الأوبئةِ ليسَتْ مجرَّد وثيقة دبلوماسيَّة، بل هي وعدٌ بأنَّ البَشَريَّة لن تُعِيدَ أخطاءها القاتلة، إنَّها فرصة لخلقِ عالَم أكثر عدلًا، حيثُ لا يُترك الفقراء للموتِ بَيْنَما يحتكر الأغنياء العلاج، لكنَّها أيضًا اختبار أخلاقي، وسيفصل التَّاريخ بَيْنَ مَنْ سعَى لإنقاذ الأرواح ومَنْ فضَّل الانتظار حتَّى تقعَ الكارثة التَّالية، فبَيْنَما تتواصل التَّحذيراتُ من أنَّ التَّسويفَ سيكلِّف البَشَريَّة أثمانًا باهظة، يبقَى السُّؤال: هل سننتظر ضربةً جديدة لنستيقظَ؟ أم أنَّنا سنتحرَّك الآن لتأمين مستقبل أكثر أمانًا؟ لَسْنا بحاجةٍ إلى المزيد من الدُّروس القاسية، ولا إلى مقابر إضافيَّة لنقتنعَ بأنَّ الاستعدادَ للمستقبل يبدأ اليوم، وليس بعد فوات الأوان. إنَّ بناء منظومة صحيَّة عادلة لا يَجِبُ أنْ يكُونَ رفاهيَّة، بل ضرورةٌ حتميَّة لضمانِ أنْ يكُونَ العالَم قادرًا على مواجهة الأزمات الصحيَّة القادمة بطريقةٍ أكثر فاعليَّةً وعدالة.