يضجُّ العالَم اليوم بأحداث جِسام وتدافعات عنيفة غيَّرت كثيرًا من ملامحه وزعزعت قواعده وهزَّت أركانه. وقد طال التَّغيير مفهوم الوطن وقِيمته، وكذلك المواطنة بحقوقها وواجباتها. في عصر العولمة والتَّدافع العنيف بَيْنَ بني البَشَر أفرادًا ودولًا ومؤسَّسات ظلَّ الوطن هو المرجع والمأوى والملاذ لِمَن لم يفقد إنسانيَّته ولم يتنازل عن بَشَريَّته. وفي خضمِّ هذه التَّحوُّلات الكُبرى وازدياد جشع المتنفذين وظلم الطُّغاة برز مثال مشرِق قدَّمه أهلُ غزَّة عمَّا يعنيه الوطن وألَّا حدود للتَّضحية من أجْلَه ولا سقفًا للصمود حفاظًا عَلَيْه. وفي الجانب الآخر فإنَّا نسمع كثيرًا التَّغنِّي بحُبِّ الوطن وبالذَّود عن حياضه مع خذلانه عِندَ كُلِّ مصلحة أو تحدٍّ. فهل أدركنا ماهيَّة الوطن؟
الوطن كيان قائم على فكرة متأصِّلة ومبدأ راسخ وواقع معاش وحال متجذِّرة لا حياة حقيقيَّة لكائن بِدُونِه. الوطن ليس مكانًا أو بقعة على الأرض فقط، بل كُلُّ ما يعيش فيه من أُناس وطرائق معايشهم، وكائنات حيَّة ومُقوِّمات بقائها، وجمادات وخصائصها، ونُظُم حُكم وأعراف، وتاريخ حضارة وتضحيات، ومقدَّرات ومكتسبات. وبذلك لا يُمكِن ولا يصحُّ أن يتجزأَ الوطن فيؤخذ بعض مِنْه ويترك أو يستبدل بضع مِنْه أو يُتحوَّل عَنْه. الوطن لكُلِّ جزء من نسيجه فلا لأحَد فردًا كان أو جماعة المزايدة عَلَيْه بادِّعاء استحقاق أو بأحقيَّة انتماء أو بأفضليَّة تملُّك.
يقوم الوطن على مُكوِّنين رئيسَيْنِ أوَّلهما المكان وما يزخر به حياة ومقدَّرات وثانيهما الإنسان وما يشيّد من حضارات ويطوّر من أعراف وجدارات. الوطن المكان قد يكُونُ قرية على سفح جبل أو حاضرة عامرة على مجرَى وادٍ أو على ضفَّة نهر أو مدينة على سهل أو على ساحل بحر أو مرابع خيام على مرتفعات هضبة أو في فيافي صحراء. هذه البقاع من قُرى وحواضر ومرابع تشكِّل في مجموعها ونسيج ترابطها الوطن الأكبر والأشمل والَّذي قد يكُونُ دَولة شاسعة المساحة ومترامية الأطراف أو إقليمًا محدودًا في جزيرة نائية أو بَيْنَ سلسلة جبال شاهقة. وكذلك إنسان الوطن بثقافته وأعرافه ونُظُم معيشته ومعارفه وخبراته ومنجزاته الحضاريَّة. فبمجموعها وترابطها تتكوَّنُ منظومة تميّز هذا الوطن الدَّولة أو الإقليم عن غيره وفي قوَّة تماسكها قوَّة يحفظ بها كيان الوطن ويُصان وبها ينمو. فلكُلِّ وطن خصائص وسِمات يتفرد بها عن غيره ويتميَّز بها عن سواه. خصائص للمكان وسِمات لقاطنيه وبمجموعها يتشكل الوطن وينمو ويقوَى أو يضعف. فقد يُعرف الوطن (المكان) بنشاط قاطنيه أو بخصائصه ومقدّراته الطَّبيعيَّة. فقد عُرفت عُمان قديمًا بمزون لخصوبة أرضها وغزارة مائها، وعُرفت كذلك بمجان لنشاط سكَّانها في استخراج النُّحاس. ومِثل ذلك فقد عُرفت العراق ببلاد الرافدين نسبةً إلى نهرَي دجلة والفرات وأرض مصر بالكنانة لموقعها بَيْنَ صحراءين تحفظانها ككنانة السّهام.
علاقة مُكوّني الوطن المكان (وما به من كائنات ومقدّرات) وساكنه الإنسان (بحضارته ونُظُم معيشته وقدراته) هي علاقة انتماء وارتباط خاصَّة ومستدامة ومتجذِّرة تتشكَّل وتتحوَّر استجابة للتَّحوُّلات الَّتي يتعرض لها كلا المُكوِّنين. هذه العلاقة شبيهة بعلاقة الجسد بالرُّوح وبتفاعلهما تكونُ قوَّة نبض حياة الوطن. علاقة تجسِّد سرَّ الحياة المحسوس والَّذي لا يدرك كنهه إلَّا مَن عايش وتفاعل مع أو خبر تلك العلاقة. وحيث إنَّ الإنسان هو مكوِّن رئيس للوطن والكائن الأكبر تأثيرًا والأقدر على تكوين الوطن وتشكيل خصائصه فإنَّ انتماءه ومسؤوليَّاته وأدواره هي الأقوى والأوضح مقارنة بالكائنات الأخرى. ومع ذلك فإنَّ لدَى الكائنات الحيَّة غرائز فطريَّة متعلِّقة بارتباطها بمواطنها أو حتَّى مواطن أصولها وذلك من خلال الحنين والعودة إِلَيْها بعد إبعادها عَنْها. هذا الحنين ورغبة العودة إلى الموطن يبرز سرَّ العلاقة وعُمق تغلغلها بَيْنَ مُكوِّني الوطن. فنجد أنَّ بعض الطُّيور ومِنْها المهاجرة تَعُودُ إلى مواطنها وتطير في سبيل ذلك مسافات طويلة. مثال ذلك الصَّقر الأدهم الَّذي يهاجر إلى مدغشقر وإفريقيا ويعود دومًا إلى موطنه في جزر الديمانيَّات وجزيرة الفحل بعُمان. ويتجلَّى أيضًا هذا السُّلوك لدَى الكائنات البحريَّة كأسماك السلمون والَّتي تكابد مصاعب وأخطارًا تقضي على كثير مِنْها في سبيل عودتها إلى أماكن تكاثرها. يخبرني أحَد الأقرباء من ملَّاك الإبل أنَّ لدَيْه ناقةً تذهب إلى مكان مولدها كُلَّما حان موعد ولادتها وأخرى تذهب إلى موطنها الأوَّل ـ بمسافة تزيد عن مائتي كيلومتر ـ كُلَّما أطلقتْ في البَرِّيَّة ولو كانتْ معقّلة (مقيَّدة الأرجل). إنَّ العلاقة بَيْنَ المكان وقاطنه علاقة فطريَّة عميقة لدَى كثير من الكائنات وتكُونُ أقواها لدَى الإنسان الكائن العاقل. وكما يقول أبو تمام
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى *** وحنينُــه أبــدًا لأوّلِ منــــزلِ
قد تتعمق العلاقة بَيْنَ مُكوِّني الوطن المكان وساكنيه وقد تضعف وتذبل. إنَّ فَهْمَ منبع هذه العلاقة وأسباب قوَّتها وضعفها وأثَر ذلك على الوطن ككائن تسري فيه حياة يتجدَّد نبضها أو تخبو جذوتها قد يساعدنا في الإجابة عن تساؤلات حَوْلَ متغيِّرات بيئيَّة وأخرى مُجتمعيَّة وسُلوكيَّة فرديَّة لدَى الإنسان المعاصر. ففي عصر العولمة وطغيان الفرديَّة واللهث المجنون وراء تكوين الثَّروات الماديَّة فقد ازدادتِ الولاءات السياسيَّة والتَّحالفات الاقتصاديَّة والتَّحزُّبات العقائديَّة أو العِرقيَّة والَّتي طغَتْ على الانتماءات والاعتبارات الوطنيَّة المكانيَّة والمعنويَّة. وقد يكُونُ هذا ناتجًا عن اختصار الوطن بالمكان وقِيمته الماديَّة وليس بالكيان وقِيمته المعنويَّة، والإنسانيَّة، والحضاريَّة. الوطن كيان ينبض بالحياة يجمع المكان بخصائصه والإنسان بسِماته ومُكوّنه الحضاري والعلاقة الوثيقة بَيْنَهما علاقة تُبنى على استيعاب الاختلاف والتَّنوُّع لكُلٍّ مِنْهما.
الوطن كُلٌّ متكامل لا يُتجزأ إلى بقاع أرض أو قاطنين يأتون ويذهبون أو نُظُم معيشة تتغيَّر وتتبدَّل. الوطن لا يُختزل في حاكم مسيطر أو في إقليم مكاني يسقط ويتلاشى بذهاب الحاكم أو بسيطرة آخر على المكان. فللوطن خصائص ومُقوِّمات تشكَّلت وترسَّخت على مدَى حقب زمنيَّة طويلة. ولذا فإنَّ كثيرًا من الدوَل النَّاشئة حديثًا قد تفتقد التَّجارب والخبرات طويلة الأمد والأساسيَّة لتشكيلِ هُوِيَّتها الخاصَّة وتكوين خصائصها المتفردة وبناء مُقوِّمات بقائها ورسوخها. وهي بذلك معرَّضة للتَّغيُّر وحتَّى التَّلاشي أكثر من تلك ذات العُمق التَّاريخي والرُّسوخ الحضاري. في عالَم العولمة الطَّاغي لا الحدود المكانيَّة ولا المنجزات من مرافق ومنشآت ـ وإن عظُمتْ وتوسَّعتْ ـ هي كافية للحفاظِ على استقلال ونماء الدَّولة وقدرتها على حماية مصالحها والتَّصدِّي للطَّامعين والغزاة. فكم رأينا من تدخُّلات أجنبيَّة سافرة خصوصًا من القوى المتنفِّذة في تغيير نُظُم الحُكم والسَّيطرة على مقدَّرات وموارد كثير من الدوَل وذلك من خلال تفكيك الدوَل باستهداف منظوماتها السياسيَّة، والثَّقافيَّة، والفكريَّة، والعقائديَّة.
الدَّعوة إلى إحياء الوطن هي دعوة إلى فَهْمِ الوطن: فكرته ومبدئه وواقعه ومُكوِّناته ومنظومته المتكاملة، والرُّجوع عن الانجراف المخيف إلى اعتباره مصلحة أو حتَّى سلعة تقيَّم بالمكاسب الماديَّة أو بالرِّبح والخسارة الماليَّة. يتعرض عالَمنا العربي خاصَّة وعالَمنا الإسلامي عامَّة لحملات مسعورة عسكريَّة واقتصاديَّة وفكريَّة وذلك للسَّيطرة عَلَيْه وعلى موارده ومقدَّراته. ولعلَّ أكبر وأعظم مقاوِم لهذه السَّيطرة، وأقوى وأثبَت رافض للاستعباد هو المُكوِّن الدِّيني والفكري والثَّقافي والعقائدي للأُمَّة العربيَّة والإسلاميَّة وهو مكوِّن رئيس للوطن. وهذا المُكوِّن هو الأقوى مقارنةً بنظيره في الدوَل الأخرى والَّتي استُهدفت في السَّابق من قِبل المنتصرين في الحروب. فقدِ استهدف المنتصرون في الحرب العالَميَّة الثَّانية المُكوِّنات الفكريَّة والعقائديَّة للمهزومتين اليابان وألمانيا لتحييدِ مصدر قوَّتهما وممانعتهما ولِتُصبحا بعد ذلك تابعتين للمنتصر، بل ومستعبدتين له. إنَّ فقدان الاستقلال الفكري والثَّقافي والعقائدي لا يُعوَّض بالنَّماء الاقتصادي والتَّطوُّر الحضري والتِّقني. فالرَّفاه الاقتصادي والمعيشي لا قِيمة لهما مع فقدان الكرامة والحُريَّة والإنسانيَّة. فلا معنى لحياة الإنسان ولوجود الأوطان إذا سلبا الحُريَّة والقدرة على مجابهة الظُّلم والطُّغيان والتسلُّط والتَّبعيَّة وعلى المُكنة في الاختيار. الدَّعوة لإحياء الوطن تقوم على دعوة لأنسنة المكان (جعله مستقرًّا وحاضنًا للإنسان) وتعزيز انتماء الإنسان (تقوية علاقته وارتباطه وتفانيه وإخلاصه).
د. سلطان بن سعيد الشيذاني
مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان
ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية