تخطو سلطنة عُمان خُطًى حثيثة نَحْوَ تحقيق مبدأ اللامركزيَّة من خلال اهتمامها المتزايد بتنمية المحافظات كهدف استراتيجي يُحقِّق عدالة التَّنمية والنُّمو الاقتصادي لمختلف مناطق ومحافظات السَّلطنة، حيث يُعَدُّ محور الاقتصاد والتَّنمية واحدًا من أهمِّ محاور رؤية «عُمان 2040» الأربعة. إذ يُعَدُ محور الاقتصاد والتَّنمية ركيزة مهمَّة لتحقيقِ تنمية متوازنة للمحافظات عَبْرَ تعظيم الإفادة من المُقوِّمات والإمكانات والموارد الَّتي تملكها المحافظات لتطوير البنى الأساسيَّة بها وتعزيز الاستثمار في القِطاعات المتنوِّعة للوصول إلى تنمية شاملة ومستدامة تحقِّق أهداف الخطط التنمويَّة للمحافظات. كما أنَّ هناك توجيهات سامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ بزيادة المبالغ المُخصَّصة لبرنامج تنمية المحافظات من (10) ملايين ريال عُماني إلى (20) مليون ريال عُماني لكُلِّ محافظة لتنفيذِ البرامج الاستراتيجيَّة لأولويَّة «تنمية المحافظات والمُدُن المستدامة» وتحفيز المزايا النسبيَّة التنافسيَّة للمحافظات.
في هذا المقال، سنسلِّط الضَّوء على إحدى أهمِّ محافظات السَّلطنة، وهي محافظة مسندم، مع التَّركيز على التَّنمية الاقتصاديَّة في ثلاثة قِطاعات رئيسة: القِطاع السِّياحي، القِطاع اللوجستي وقِطاع الثَّروة السَّمكيَّة. بداية، تحظى محافظة مسندم بأهميَّة استراتيجيَّة بالغة حيث تطلُّ على مضيق هرمز الَّذي يُعَدُّ أكثر الممرَّات المائيَّة الدّوليَّة لصادرات النِّفط والتِّجارة ويُعَدُّ البوَّابة الشَّرقيَّة لحركة التِّجارة والملاحة. إذ يمرُّ من خلاله نَحْوُ (90٪) من صادرات دوَل الخليج من النِّفط إلى العالَم الخارجي.
كما أنَّ المحافظة حظيَتْ بعناية كبيرة من قِبل الحكومة من خلال إعداد الاستراتيجيَّة الشَّاملة للتَّنمية الاقتصاديَّة والتَّخطيط الشَّامل لمحافظة مسندم (2040) والَّتي تهدف لتنويع مصادر الدَّخل ورفع مستوى معيشة الأفراد، وإيجاد تنمية اقتصاديَّة مستدامة في مختلف المجالات، بالإضافة إلى الحفاظ على المُقوِّمات الثَّقافيَّة والطَّبيعيَّة الَّتي تزخر بها المحافظة.
تتمتع محافظة مسندم بمُقوِّمات طبيعيَّة عظيمة ممَّا عزَّز مكانتها السياحيَّة، حيثُ تُعَدُّ الجزر من أهمِّ المواقع ذات الأهميَّة الوطنيَّة والإقليميَّة وبها مناطق لتعشيشِ عدَّة أنواع من الطيور البحريَّة والبَرِّيَّة. وتتكوَّنُ تلك الجزر من صخور جيريَّة وشعاب مرجانيَّة ذات مساحات كبيرة. كما توجد فيها السَّلاحف الخضراء ويُمكِن مشاهدة الثدييات البحريَّة كالدولفين والحوت الأحدب في الأخوار البحريَّة. يشهد القِطاع السِّياحي بمحافظة مسندم نُموًّا متزايدًا في عدد السُّفن السِّياحيَّة العملاقة الَّتي ترسو بميناء خصب، وكذلك بالنِّسبة لعدد السيَّاح القادمين من داخل سلطنة عُمان وخارجها. وحسب الإحصاءات الأخيرة فإنَّ عدد المنشآت الفندقيَّة بمحافظة مسندم بلغتْ (11) منشأة فندقيَّة. ووفقًا لإحصاءات وزارة التُّراث والسِّياحة أنَّ عدد السيَّاح الَّذين زاروا محافظة مسندم خلال الموسم الشِّتوي الماضي بداية من شهر نوفمبر 2023م وحتَّى نهاية شهر أبريل من العام 2024م بلغ (68) ألفًا و(243) سائحًا من مختلف الدوَل الخليجيَّة والعربيَّة والأوروبيَّة والآسيويَّة وغيرها. كما تعكف الوزارة على إنشاء مركز زوَّار بموقع دبا الأثري والَّذي سيحتوي على متحف يعرض فيه تاريخ وثقافة المنطقة بتكلفة تقدَّر بمبلغ (2.7) مليون ريال عُماني. كما تعمل وزارة التُّراث والسِّياحة على تطوير قِطاع السِّياحة في المحافظة عَبْرَ تنفيذ عددٍ من المشاريع السِّياحيَّة، ومن أهمِّ المشاريع الجاري تنفيذها بالمحافظة، مشروع منتجع (5) نجوم بولاية خصب ومشروع إنشاء فندق في ولاية بخاء بتكلفة إجماليَّة (31) مليون ريال عُماني للمشروعين. أمَّا القِطاع اللوجستي فهو يُعَدُّ من الممكنات الرَّئيسة لإنجاح كافَّة الأنشطة السِّياحيَّة والاقتصاديَّة والتِّجاريَّة في المحافظة. لذا فإنَّ وجود منظومة لوجستيَّة متكاملة برًّا وبحرًا وجوًّا يُعَدُّ محرِّكًا أساسيًّا لتطوير القِطاعات الحيويَّة الأخرى. وأولتِ الحكومة اهتمامًا كبيرًا بهذا القِطاع من خلال التَّركيز على المشاريع التنمويَّة الاستراتيجيَّة، وإن من أهمِّ المشروعات الاستراتيجيَّة الاستثماريَّة خلال عام 2024 البدء في إنشاء مطار مسندم، والَّذي سيعمل على تنشيط الحركة السِّياحيَّة وجذب المستثمرين إلى المحافظة. ولتسهيلِ عمليَّات النَّقل والقِطاع اللوجستي استثمرتِ الحكومة أكثر من (40) مليون ريال عُماني في تطوير ميناء الصَّيد البحري في ولاية دبا والَّذي يُعَدُّ أحَد ممكنات القِطاع الاقتصادي في المحافظة. ومن أبرز المشاريع اللوجستيَّة البَرِّيَّة هو طريق (خصب ـ ليما ـ دبا) الَّذي يُعَدُّ من المشروعات الاستراتيجيَّة والحيويَّة، وسيُسهم الطَّريق في فتحِ مناطق جديدة للتَّنمية العمرانيَّة والاقتصاديَّة والتِّجاريَّة بالمحافظة وتنشيط الحركة السِّياحيَّة. أمَّا فيما يخصُّ القِطاع اللوجستي البحري فإنَّ مشروع ميناء خصب سيعمل على تعزيز قِطاع الشَّحن وتحسين الأداء من حيث كميَّات مناولة البضائع واستقطاب الأفواج السِّياحيَّة، أضفْ إلى ذلك، مشروع ميناء دبا الَّذي سيُسهم في تعزيز الحركة الاقتصاديَّة، وتعزيز حركة النَّقل البحري بالمحافظة.
من جانب آخر، يُعَدُّ قِطاع الثَّروة السمكيَّة أحَد القِطاعات الاقتصاديَّة الواعدة، ولكونه أيضًا مصدر دخل لفئة كبيرة من سكَّان المحافظة. وكان لهذا القِطاع نصيب من المشاريع الاستراتيجيَّة بداية من مشروع سُوق الأسماك الجديد بولاية خصب والَّذي يُعَدُّ أحَد المشاريع التنمويَّة والَّذي أُقيم على أرض تبلغ مساحتها (2400) متر مربَّع بتكلفة بلغتْ (3) ملايين ريال عُماني ويهدف هذا السُّوق إلى رفع كفاءة منظومة التَّسويق السمكيَّة بالمحافظة، وكذلك الإسهام في زيادة حجم الاستثمارات المرتبطة بمنتجات الصَّيد البحري. بالإضافة إلى أنَّ مشروع استزراع الأسماك الزعنفيَّة في ولاية خصب في منطقة الحرف بولاية خصب، والَّذي أُقيم بمساحة تبلغ (32.7612) هكتار، وباستثمار يقدَّر بمبلغ (10.3) مليون ريال عُماني حيثُ بدء النَّشاط التشغيلي له في مارس من العام الماضي 2024م، وبطاقة إنتاجيَّة تقدَّر بحوالي (3500) طن سنويًّا من أسماك الكوفر المُخصَّصة للتَّصدير للأسواق الإقليميَّة والعالَميَّة. وفي الختام، تمضي الخطط التنمويَّة والمشاريع الاستراتيجيَّة الَّتي تُنفِّذها وزارة التُّراث والسِّياحة، بالتَّعاون مع بعض الجهات الحكوميَّة والخاصَّة في المحافظة، بوتيرةٍ متسارعة في مختلف القِطاعات الاستراتيجيَّة. ومع ذلك، لا تزال المحافظة بحاجة إلى دَوْر أكثر فاعليَّة من القِطاع الخاصِّ. إنَّ هناك العديد من الفرص الاستثماريَّة الواعدة الَّتي يُمكِن للقِطاع الخاصِّ تَبنِّيها، من خلال تعزيز الاستثمارات وضخِّ المزيد من المشاريع التنمويَّة خلال الفترة القادمة، لدفع عجَلة التَّنمية السِّياحيَّة والاقتصاديَّة بالمحافظة ولتحقيقِ نُموٍّ اقتصادي مستدام يتماشى مع أهداف رؤية «عُمان 2040». كما أنَّه لا يزال القِطاع السِّياحي في محافظة مسندم بحاجة إلى مزيدٍ من التَّرويج الفعَّال؛ لتنشيطِ الحركة السِّياحيَّة وإبراز المُقوِّمات الفريدة الَّتي تتمتع بها المحافظة لتعزيزِ السِّياحة الداخليَّة واستقطاب الزوَّار من الخارج. وهذا يتطلب تكامل وتكاتف الجهود بَيْنَ مختلف الجهات المعنيَّة؛ لضمانِ تطوير المحافظة كوجهة سياحيَّة عالَميَّة.
د. يوسف بن خميس المبسلي
متخصص في العلوم المالية والاقتصاد