صدَر قَبل حوالي أسبوعَيْنِ تقرير من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات يتعلق بأعداد السكَّان في سلطنة عُمان، وللوهلة الأولى يُظهر التَّقرير ما نِسْبته حوالي (44%) من الوضع الديموغرافي في السَّلطنة يتمثل في أعداد الوافدين بالمقارنة مع بقيَّة السكَّان المواطنين، وهي بالمناسبة نِسبة عالية ومرتفعة جدًّا حيثُ تقترب من النِّصف بالمقارنة مع سكَّان البلد، في وقتٍ يعاني المُجتمع من مُشْكلات كثيرة ليس أقلّها موضوع الباحثين عن عمل، والمجالات الاقتصاديَّة الَّتي تحتاج لاستمرارها لقوَّة شرائيَّة كبيرة، في تناقضٍ لافت يَجِبُ الوقوف عَلَيْه والبحث في أسبابه ونتائجه.
فلو تحدَّثنا عن الموضوع الأوَّل المرتبط بهذه الإحصائيَّات وهو الباحثون عن عمل، فإنَّ هذه النِّسبة من الوافدين في مجملِها هي قوى عاملة أصلًا مهما اختلفتْ مستوياتها ووظائفها، فهل تمَّ حصر المجالات والوظائف الَّتي تشغلها؛ وبالتَّالي إحلال مواطنين مكان هذا الوافد؟ هل تمَّ معرفة عدد العُمانيِّين المؤهَّلين لِتولِّي وظائف يشغلها هؤلاء الوافدون؟ إنَّ نظرةً فاحصة وسريعة تُظهر بالفعل مدَى حاجتنا للإجابة عن هذه الأسئلة، فإنَّني على يقينٍ بأنَّنا لو حاولنا تحليل هذه البيانات وقُمنا بتنفيذ معطياتها بالصورة الَّتي أوضحتها، أعتقد أنَّنا سوف نتجاوز المِحنة الأساسيَّة الَّتي نُعاني مِنْها جميعًا والَّتي تشغل بالَ كُلِّ أُسرة عُمانيَّة، وهي موضوع الباحثين عن عمل. ورغم أنَّ غالبيَّة هؤلاء الوافدين يشغلون وظائف عاديَّة ويتحرج العُماني من العمل فيها، إلَّا أنَّ الإحصائيَّات ستوضح أنَّ هنالك وظائف كثيرة يُمكِن للعُماني أن يعملَ فيها. أتذكَّر هنا تجربة وزارة التَّربية والتَّعليم في بداية الألفيَّة الجديدة في عمليَّة الإحلال الَّتي قامتْ بها ليس على مستوى المُعلِّمين، بل على المستوى الإداري والإشرافي عِندَما آمَنَ المسؤولون فيها بأنَّ الكوادر العُمانيَّة لدَيْها من الكفاءة والخبرة والحنكة ما يُمكِّنها من تَولِّي مناصب إداريَّة وإشرافيَّة كان يُروَّج لها سابقًا أنَّها تحتاج إلى خبرات طويلة ولا يُمكِن إحلال مُعلِّمين لم يكملوا ثلاث سنوات لكَيْ يتولَّوا وظيفة مدير مدرسة أو مشرِف تربوي. ولكنَّ الإصرارَ على موضوع التَّعمين كان حاضرًا وصائبًا في نَفْس الوقت، وأثبتتِ الكفاءات العُمانيَّة نجاحًا منقطع النَّظير وما زالتْ تُحقِّق الإنجازات في هذا المجال وغيره. إنَّنا نحتاج أن ننقلَ هذه التَّجربة إلى القِطاع الخاصِّ، ولدَيْنا من الشَّباب والشَّابَّات مَن يستطيع إنجاز المطلوب بكُلِّ كفاءة وكُلِّ مسؤوليَّة، فقط الأمْرُ يحتاج لمزيدٍ من الثِّقة والعمل الجادِّ، والاستفادة من هذه البيانات الَّتي أشارَ لها المركز المختصُّ بالإحصاءات.
أمَّا الموضوع الآخر المرتبط بهذا الجانب فهو يتمحور حَوْلَ نَوْعيَّة الوافدين ومدَى ارتباط ذلك بالحراك الاقتصادي وحركة السُّوق، فكما هو معلوم أنَّ عدد السكَّان ينعكس إيجابًا على سُوق العمل حيثُ القوَّة الشِّرائيَّة هي مَن يُحرِّك عجَلة الاقتصاد، وأحَد الجوانب الَّتي يُعاني مِنْها الاقتصاد العُماني اليوم هو ضَعف القوَّة الشِّرائيَّة، حيثُ أدركتِ الدوَل أهميَّة ذلك لدرجة أنَّ دَولةً مِثل الصِّين بتعدادها الضَّخم بدَّلتْ استراتيجيَّتها الأزليَّة المعتمدة على طفلٍ واحد إلى فتح المجال على مصراعَيْه في هذا الجانب؛ لأنَّها أدركتْ متأخِّرةً أهميَّة وجود بَشَر حيثُ تحوَّل الأمْرُ من جانبٍ سلبي إلى إيجابي. من هنا نُدرك أنَّ كثرةَ السكَّان أصبحتْ مطلبًا مُلحًّا لدعمِ الاقتصاد في أيِّ دَولة، لكن عِندَما ننظُر للوضع في سلطنة عُمان نجد أنَّ هؤلاء الوافدين لا يعملون في الأساس وفقَ هذا التَّوَجُّه؛ لأنَّ جلَّهم يعمل في وظائف لا تسمح لَهُم بعمليَّة جلبِ أُسرهم وبالتَّالي التَّسوُّق من البلد وإنفاق المبالغ فيها، فيتَّجِه مباشرةً إلى تحويل هذه المبالغ إلى بلده، إنَّنا بحاجةٍ فعلًا لاستراتيجيَّة واضحة ومُحدَّدة في هذا المجال، تهتمُّ في الأساس بنَوْعيَّة هذه الفئة من الوافدين وكيفيَّة مساهمتهم في اقتصاد البلد بالصُّورة الإيجابيَّة بعيدًا عن مجرَّد الاستفادة من طرفٍ واحد وهو الوافد، ويُمكِن الاستفادة من تجارب دوَل مجاورة في هذا المجال.. يُسهم الوافدون بدعمِ الاقتصاد المحلِّي أكثر عن المواطنين، وهنا لا أتحدَّثُ عن عمليَّة زيادة عددهم، بل بما يتناسب مع الموضوع الأوَّل وهو الباحثون عن عمل وكيفيَّة التَّوفيق بَيْنَ الاثنَيْنِ معًا بحيثُ يُمثِّل وجودهم إضافةً للاقتصاد المحلِّي وليس عبئًا عَلَيْه.
إنَّ قدرة أيِّ دَولة في العالَم على الاستفادة من الوضع الديموغرافي لصالحِ الاقتصاد المحلِّي هو التَّوَجُّه الَّذي يَجِبُ أن يرتكزَ عَلَيْه أيُّ تَوَجُّه حكومي وخاصٍّ وفقَ طبيعة وقوانين البلد وبما يتناسب مع حجمِ هذا الوضع وحجمِ الاقتصاد المحلَّي في نَفْس الوقت.
د. خصيب بن عبدالله القريني