لا شكَّ أنَّ أغْلبَ أنظمة الحُكم في العالَم لدَيْها العديد من التَّحدِّيات المتعلِّقة بإدارة السُّلطة ودَوْر القائد السِّياسي وعلاقة تلك القيادة والسُّلطة مع مواطنيها. وتختلف نِسبة التَّأثير في الواقع الوطني (المُجتمع والدَّولة) باختلاف أسلوب القيادة والحُكم، فهناك وقائع ودلائل يُمكِن الاستعانة بها لتقييم البيئة السِّياسيَّة الوطنيَّة عمومًا وواقع القيادة والسُّلطة في الدَّولة على وَجْه الخصوص، من أبرزها بكُلِّ تأكيد مدَى قدرة النِّظام السِّياسي والقيادة على التَّطوُّر والمرونة مع الواقع السِّياسي الوطني والدّولي، ومدَى التَّعاطي مع الأزمات والتَّحدِّيات الدَّاخليَّة والدّوليَّة.
بالتَّالي يُمكِن التَّأكيد على أنَّ الأنظمةَ السِّياسيَّة الَّتي لا تحاول التَّكيُّف والتَّغيير مع التَّحوُّلات الوطنيَّة والدّوليَّة، كما أنَّها لا تسعَى إلى محاولة الاندماج مع الواقع المعاصِر والخروج من قوقعة التَّقليديَّة والفِكر الكلاسيكي في القيادة وإدارة السُّلطة ومتطلبات التَّنمية، فإنَّها أي تلك الأنظمة الحاكمة والقيادات السِّياسيَّة ستتراجع استثماراتها السِّياسيَّة الوطنيَّة والَّتي يقع على رأسها الثِّقة والرِّضا الجماهيري، بالإضافة إلى فقدانها للدَّعم الشَّعبي، خصوصًا من فئة الشَّباب.
من أكثر الأنظمة السِّياسيَّة تعرُّضًا لمِثل هذه الأزمات والتَّحدِّيات السِّياسيَّة الأنظمة التَّقليديَّة مِثل الأنظمة الوراثيَّة والأنظمة الَّتي تصلُ إلى سدَّة الحُكم عَبْرَ الانقلابات أو الأنظمة الَّتي تَقُودُها شخصيَّات عسكريَّة، ولُبُّ المُشْكلة في تلك الأنظمة هو التَّكيُّف والتَّعاطي مع المتغيِّرات بسبب سيطرة الفكر السِّياسي التَّقليدي القائم على الأحقيَّة المُطْلقة بالنِّسبة للأنظمة الوراثيَّة ونظريَّة التَّفوُّق والقائد المُنقِذ بالنِّسبة للأنظمة السِّياسيَّة الَّتي انطلقتْ من رحمِ الانقلابات أو الَّتي يَقُودُها القادة العسكريُّون الَّذين لم يُحسنوا استغلال اللَّحظة التَّاريخيَّة للتَّقارب مع المُجتمع وكسبِ رضاهم.
والمُتتبِّع للكثيرِ من الأنظمة السِّياسيَّة التَّقليديَّة اليوم يلحظُ وجودَ العديدِ من التَّحدِّيات مِنْها بكُلِّ تأكيد ما هو طبيعي مِثل التَّحدِّيات الاقتصاديَّة والماليَّة، كنتاج للمتغيِّرات والتَّحوُّلات الدّوليَّة العابرة للحدود الوطنيَّة، ومِنْها ما هو نتاج سوء إدارة وفساد سياسي، على رأسها التَّحدِّيات السِّياسيَّة والَّتي بِدَوْرها تسبَّبت في تفاقم بقيَّة التَّحدِّيات.
لذا يُمكِن التَّأكيد على أنَّ العديد من الأنظمة السِّياسيَّة القائمة اليوم تعيشُ أزمة في القيادة والسُّلطة خصوصًا الأنظمة السِّياسيَّة التَّقليديَّة، والأخطر فيما يتعلَّق بتلك الأزمة هو سيطرة وهْمِ السُّلطة والقيادة المُطْلقة، أي اعتقاد الأنظمة الحاكمة بأنَّها محبوبة من قِبل الشُّعوب وأنَّ المواطنين يثقُون بها أو راضون عَنْها بشكلٍ كُلِّي، وفي أحسنِ الأحوال الاطمئنان إلى بعض الرِّضا النَّاتج عن المعالجات المؤقَّتة للمشاكل الدَّاخليَّة.
عَلَيْه، فإنَّ تلك «الحكومات التَّقليديَّة إن لم تسْعَ للتَّغيير والتَّطوُّر ستتوَجَّه نَحْوَ التَّآكل وستَسير نَحْوَ الانهيار مع الوقت نظرًا لعدمِ قدرتها على مواكبة التَّغيُّرات المعاصرة في تطوُّر الوعي الإنساني والمُجتمعي تجاه قضايا الحكم وإدارة الدَّولة الحديثة، ولعدم قدرة الأكثر مِنْها على مواكبةِ المُتغيرات التكنولوجيَّة السَّريعة في الألفيَّة الثَّالثة من جهة أخرى، وهو أمْرٌ لا بُدَّ من إدراكه والتَّنبيه إِلَيْه والسَّعي إلى تقليص أكبر قدر ممكن من تبعاته واحتواء ما يُمكِن احتواؤه من انعكاساته السَّلبيَّة على كيان الدَّولة ومستقبل الحكومة الَّتي تَقُومُ بتسيير الحياة اليوميَّة بكُلِّ أشكالها «(1 )
إنَّ أخطرَ المفاهيمِ السِّياسيَّة الَّتي يُمكِن أن تتسبَّبَ بأكبر المشاكل لدَى الأنظمة السِّياسيَّة المعاصِرة هي الاعتقاد الجازم بمَحبَّة الجماهير المُطْلقة أو الأزليَّة، بالتَّالي إمكانيَّة الاستمرار بالطَّاعة والولاء في مُطْلقِ الأوقات، وهذا المعتَقدُ أثبتَ عدم صحَّته بالمُطْلق في مختلف العصور حتَّى لدَى أفضل القيادات السِّياسيَّة التَّاريخيَّة، لذا فالطَّاعة المُطْلقة أو العمياء أو الأبويَّة مجرَّد وَهْمٍ سياسي لا يبتُّ للحقيقة ولا للواقع بصِلَة.
إنَّ من أبرز الإشكاليَّات الَّتي تُعاني مِنْها الأنظمة السِّياسيَّة التَّقليديَّة ولعلِّي أستطيع الجزم بأنَّها أي تلك الإشكاليَّات وراء الأسباب المؤدِّية إلى ضَعف الصِّلَة بَيْنَ القيادة والمُجتمع، بَيْنَ الحكومة والمواطنين، أقصد اتِّساع الهوَّة في العلاقة الوطنيَّة، فنرى تلك القيادات السِّياسيَّة (الحكَّام والوزراء) من المُقلِّين كثيرًا في التَّواصُل المباشر مع المواطنين، وأنَّ أغْلَبَهم لا يَعْلَم عن أحوال المواطنين إلَّا من خلال ما يُرفع لَهُم من تقارير وتقييم للأوضاع من خلال الوزراء والمؤسَّسات المعنيَّة، وهي أي تلك التَّقارير في الغالِب ما تكُونُ منقوصةً وتفتقد إلى المصداقيَّة والشَّفافيَّة.
كما أنَّ بعض القيادات السِّياسيَّة ـ وللأسف الشَّديد ـ تعيش شكلًا من أشكال التَّرف والوجاهة السِّياسيَّة الَّتي تدفعُ بها إلى البُعد عن المواطنين، معتقِدةً بكفاية تعامل ما دُونِها من قيادات الصَّفِّ الأوَّل والثَّاني مع المُجتمع، أو أنَّها أي تلك القيادات المختارة من قِبلها كافية لتمثيلِها أمام المُجتمع، وهذا الأمْرُ يُعَدُّ من الأخطاء السِّياسيَّة التَّاريخيَّة الَّتي أدَّت بالعديد من الحكَّام والأنظمة السِّياسيَّة في الدّخول مع الشُّعوب في صدام ومواجهة أدَّتْ في كثيرٍ من الأحيان إلى العُنف والثَّورات أو الدَّمار والخراب، أو التَّدخُّلات الدّوليَّة في تلك الدوَل.
كما أنَّ انفصال تلك القيادات عن الواقع السِّياسي والتَّحوُّلات الحاصلة في الأنظمة السِّياسيَّة المعاصرة هو الآخر وراء أبرز الأسباب المؤدِّية إلى اتِّساع تلك الهوَّة في العلاقة بَيْنَ القيادة والمُجتمع، فترى أغْلَب القيادات السِّياسيَّة تعيش في قصورها خلْفَ المكاتب المُغْلقة، دُونَ النُّزول للميدانِ، فهي في الغالِب لا تسعَى للخروج إلى المُجتمع إلَّا لغاياتٍ دعائيَّة وترفيهيَّة، كما أنَّ تلك القيادات في الغالِب لم تألفِ الميدان أو أنَّها تخشاه لعلاقتها السَّيِّئة مع الشُّعوب، أو نظرًا لكثرةِ مخاوفها الأمنيَّة نتيجةَ ضَعف العلاقة بَيْنَها وبَيْنَ المواطنين.
إنَّ البيئةَ السِّياسيَّة المعاصرة بكُلِّ ما تحتويه من تحوُّلات على مستوى القيادة وتغيُّرات على صعيد الحُكم وإدارة شؤون الدَّولة والمواطنين، وتغيُّرات أخرى تتعلَّق بالوعي المُجتمعي وارتفاع مستوى الثَّقافة السِّياسيَّة وتوسُّع أدوات القوَّة لدَى الأفراد في مواجهة الحكومات لا تتماشى مع الأنظمة التَّقليديَّة، وإنَّ أيَّ فِكرة أخرى تَسير باتِّجاه التَّعامل مع الشُّعوب على أساس التَّبعيَّة التَّقليديَّة والأبويَّة لن يكتبَ لها النَّجاح في المرحلة الزَّمنيَّة القادمة، كما أنَّ سيطرة فِكرة السُّلطة المُطْلقة على اعتبار وصول السُّلطة عَبْرَ الحقِّ الوراثي أو القيادة الَّتي وصلتْ إلى الحُكم حتَّى عَبْرَ صناديق الانتخاب ليسَتْ سوَى وهْمٍ من أوهام الحُكم في القرن الحادي والعشرين.
فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ ارتفاعَ سقفِ الوعي الجماهيري أو المُجتمعي نتيجة العديد من العوامل والمحفِّزات الدَّاخليَّة والخارجيَّة كارتفاع سقفِ التَّعليم وتوافر المعلومة والقدرة على تبادلها نتيجة الزِّيادة المُطَّردة في شبكات التَّواصُل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرَّقميَّة والتكنولوجيَّة، ما يَجِبُ أن يترتبَ عَلَيْه في الجانب الآخر ضرورة ارتفاع سقف وعي الحكومة والمسؤولين وخصوصًا الشَّريحة القائمة على إصدار القرارات والتَّشريعات في أيِّ أُمَّة وطنيَّة.
إذًا نحن اليوم أمام واقع مختلف ومعقَّد في بناء الدوَل والأنظمة المُستنيرة واختراع حكومات المستقبل، واقع لا يُمكِن الاعتماد فيه على الفرديَّة وحْدَها (المسؤول) في إصدار القرارات والتَّشريعات، ولا يُمكِن القَبول فيه بالقوَّة الصُّلبة أو الإرغام والتَّهديدات، إذ يَجِبُ أن تفهمَ فيه الحكومات أنَّ سقفَ وعيِ المُجتمع وثقافته وفَهْمه للمتغيِّرات والمُتحوِّلات الدّاخليَّة والخارجيَّة كما سبَق وقُلنا قد تغيَّر بشكلٍ كبير، ما نتَج عَنْه تغيير في التَّطلُّعات والأهداف والنَّظر إلى الواقع ومجريات الأمور، ما يحتِّم بالضَّرورة مُواكَبة ذلك التَّغيير بالاحترام والتَّقدير والسَّعي للتَّعامل معه بحكمة وحِنكة وبراعة ومقاربة في الوعي الرَّسمي؛ باعتباره ـ أي ذلك الارتفاع في سقف الوعي الجماهيري تجاه قضاياهم الشَّخصيَّة والوطنيَّة ـ موردًا من موارد قوَّة الدَّولة وليس ضَعفًا فيها أو تراجعًا في نفوذها وسُلطتها.
فلقَدْ باتَ من المؤكَّد ـ وبما لا يدع مجالًا للشَّك ـ حدوث ذلك التَّغيير الجذري في بنية وهياكل الوعي المُجتمعي، وخصوصًا بَيْنَ فئة الشَّباب مِنْهم، والَّذي رافقَه العديد من التَّحوُّلات الثَّقافيَّة والسِّياسيَّة والفكريَّة الجماهيريَّة الَّتي باتتْ تؤثِّر كثيرًا في نظرتهم إلى حياتهم ومستقبلهم وطبيعة تعاملهم مع مَن يُدير شؤون حياتهم اليوميَّة؛ وبالتَّالي نظرتهم إلى شكلِ ومضمون القرارات والاستراتيجيَّات والأهداف والتَّوجُّهات الوطنيَّة، وفي مختلف مجالاتها وتفرُّعاتها الحياتيَّة.
ــــــــــــــــــــ
مراجع
1 ـ - د. محمد بن سعيد الفطيسي، الدولة المطمئنة في الألفيَّة الثالثة (ثنائيَّة صناعة الأمن الوطني في زمن الفوضى الخلاقة)، مكتبة الضامري، السيب، ط1/ 2015
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @