من أجمل العبارات الَّتي قرأتُها: «من أجمل أنواع الرِّزق، مديرٌ يريدك أن تنجح»، وهو ما قادني إلى التَّأمُّل في كثير من المحادثات الَّتي نُجريها بَيْنَ الفترة والأُخرى مع زملاء وأصدقاء في مختلف المؤسَّسات «الحكوميَّة والخاصَّة» حَوْلَ بيئة العمل ودَوْر المديرين في نجاح بيئة العمل. في عالَم الإدارة الحديثة لم يَعُدِ النَّجاح مرتبطًا فقط بالمهارات التقنيَّة والمعرفة الأكاديميَّة، بل يمتدُّ إلى ما أبعد من ذلك، وصولًا إلى ما نطلقُ عَلَيْه «الذَّكاء العاطفي في بيئة العمل» والَّذي يُعَدُّ محورًا أساسًا في القيادة الفعَّالة.
الذَّكاء العاطفي في أبسط صوَره هو امتلاك القدرة على تحديد وإدارة التَّحكّم بالمشاعر الشَّخصيَّة سويَّة مع مشاعر الآخرين، وهو يشمل عددًا من المهارات ومِنْها مهارة الوعي العاطفي والَّذي يعني مقدرة الشَّخص على تحديد ومعرفة مشاعره الشَّخصيَّة ومشاعر الآخرين، والقدرة على استغلال هذه المشاعر وتعليم الآخرين كيفيَّة توظيفها في مهامَّ فكريَّة مِثل حلِّ المشاكل أو التَّفكير، والمقدرة على التَّحكُّم بالمشاعر، والَّتي تتضمَّن كلًّا من تحسين المشاعر الشَّخصيَّة عِندَ الحاجة، وإسعاد أو تهدئة الآخرين.
ويطولُ الحديث حَوْلَ هذا العِلم وأهميَّته في بيئة العمل، ولكنَّ الحقَّ يُقال بأنَّ الَّذي يمتلك هذه المهارة لا يكتفي بالتَّواصُل الفعَّال، بل الأهمُّ أن يُظهرَ نزاهةً وصدقًا يُعزِّزان الثِّقة بَيْنَه وبَيْنَ فريقه. ومع ذلك، فليس كُلُّ مَن يدَّعي الذَّكاء العاطفي يَفْهَم جوهره الحقيقي، إذ يُمكِن للوعودِ الزَّائفة والكلمات المُنمَّقة أن تُخفيَ خَلْفَها ممارسات تضرُّ بثقافة العمل بدلًا من تعزيزها.
واحدة من أهمِّ القواعد الَّتي يُمكِن أن تجعلَ الموظَّف مُقبلًا على العمل بروحٍ إيجابيَّة ورغبةٍ في تحقيق أهداف المؤسَّسة، هي تفكير المدير وأُسلوبه في التَّعامل مع الطَّاقم من حَوْلِه. ويُمكن القول إنَّ واحدةً من أهمِّ القواعد الَّتي يَجِبُ على المسؤول الرَّاغب أن ينجحَ هي «الإرث الَّذي يتركه بعد انقضاء وجوده في هذه الإدارة؟»
عِندَما تتناغم أفعال المدير مع أقواله، تبدأ أُسُس الثِّقة بالنُّمو وتتجسَّد بَيْنَه وبَيْنَ الطَّاقم مِن حَوْلِه. فالقائد الَّذي يتمكَّن من ممارسة الذَّكاء العاطفي ويمارسه بفعاليَّة يُفعِّل جوهر هذه الصِّفة الحقيقيَّة، وإلَّا سيشعر الموظفون بالإحباط وفقدان الحماس، واحدة من أهمِّ الأُسُس الَّتي تَبني النَّجاح الحقيقي لأيِّ إدارة هي عنصرَا الصِّدق والنَّزاهة في بيئة العمل، وهما رئتا التَّنفُّس، بل والعمود الفقري للنَّجاح، وهما الرَّكيزتان الأساسيَّتان في بناء الثِّقة، والَّتي بِدَوْرها تُسهم في خلقِ بيئة عمل صحيَّة ومنتِجة، فالمدير الَّذي يتحلَّى بالذَّكاء العاطفي لا يكذب أو يبالغ في وعوده، بل يلتزم بما يقول ويعمل على تحقيق أهداف الفريق بشفافيَّة.
عِندَما يثقُ الموظَّف في قائدهم ويشعُر بحُبٍّ حقيقي نابع من صدقه واهتمامه، يُصبح من الطَّبيعي أن يعملَ بكُلِّ طاقته من أجْلِ نجاح الفريق.. ومن هنا نستطيع القول بأنَّ المسؤولَ لا يتطلَّب الولاء بالإجبار، بل يكسبه بالحُب والاحترام والتَّقدير، وحينها سيكُونُ هناك ولاء يتزايد قوَّته تجاه المؤسَّسة من قِبل الموظَّفِين بسبب سُلوك الإدارة تجاههم؛ لأنَّه يُعزِّز روح الانتماء والرَّغبة في النَّجاح المشترك.
النَّجاح الحقيقي لأيِّ مؤسَّسة وفي مختلف القِطاعات لا يُمكِن قياسُه فقط بالإنجازات الماديَّة، بل بالقِيم الَّتي زُرعتْ داخل البيئة مِثل الصِّدق والنَّزاهة والإخلاص، وصولًا إلى خلقِ بيئة عمل تَسُودُها الثِّقة والتَّعاون، وحينها يُمكِن القول بأنَّ المؤسَّسةَ ستُصبح مكانًا مثمرًا يُحقِّق طموحات الجميع.
عِندَ تطبيق هذه المُثل تتحقق حينها تلك المقولة الَّتي نسمعها ونسعى إلى تردديها «اذهب إلى عملك وكأنَّك ذاهبٌ لموعدٍ عاطفي» وهو لا يتحقَّق إلَّا بوجود إدارة تمتلك الذَّكاء العاطفي وتطبِّقه بتفهُّم وإيجابيَّة.. فالمسؤول الَّذي يُظهر احترامًا وتقديرًا حقيقيًّا يُعزِّز انتماء الموظَّف للمؤسَّسة ويجعلها مكانًا يتطلع للذَّهاب إِلَيْه كُلَّ يوم بحماسة؛ لأنَّه يعرف أنَّ هناك بيئةً تسعَى لِنَجاحِه.
وبالمقابل، فالمسؤول الَّذي يفتقر إلى الذَّكاء العاطفي غالبًا ما يُحدث توتُّرات داخل فريقه ممَّا يؤدِّي وبشكلٍ تلقائي إلى انتشار الإحباط وخلقِ بيئة عمل سامَّة. وهذا النَّوْع من القيادة لا يَبني الجسور، بل يهدمها، ويترك الفريق في حالةٍ من الشَّك والتوتُّر المستمرِّ.
لعلَّ واحدةً من أهمِّ المُقوِّمات الَّتي تُسهم في تحقيق الاستقرار النَّفْسي الحقيقي داخل بيئة العمل هو ممارسة الحديث الإيجابي والرِّفق واللِّين في التَّعامل فما «دخلَ الرِّفق شيئًا إلَّا زانَه».. فالمسؤول الَّذي لا يمتلك القدرة على الحديث بإيجابيَّة ويتَّسم لسانه بالسَّلاطة يُمكِن أن يُلحقَ أضرارًا بالغة بفريقه. فالكلمة السَّليطة تترك ندوبًا دائمة على الرُّوح، والقائد ذو الذَّكاء العاطفي يدرك قوَّة الكلمة، فيستخدمها لِتَحفيزِ فريقه ورفع معنويَّاتهم بدلًا من هدمها.
وختامًا الذَّكاء العاطفي ليس مجرَّد مهارة إضافية، بل هو عنصر جوهري يساعده في بناء بيئة عمل لِتكُونَ متماسكةً ومنتِجة. فالقادة الَّذين يتمتَّعُون بهذه المهارة يُظهرون قدرةً استثنائيَّة على تحقيق التَّوازن بَيْنَ تحقيق الأهداف العمليَّة ورعاية العلاقات الإنسانيَّة داخل فريقهم.
المنتصر بن زهران الرقيشي