الخميس 16 يناير 2025 م - 16 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

البنية والتركيب فـي آية الإسراء«دراسة بلاغية تربوية»«1»

الأربعاء - 15 يناير 2025 04:17 م

إن للكلمة مفردةً (وتُسَمَّى البنية) بتشكيلتها، وحروفها دورًا كبيرًا في السياق القرآني، ودراستها (أي: البنية) صرفيا تكشف عن جمالها في محلها، وكمالها في سياقها، ولها مكانتها في محلها، وكذا النبر فيها والتنغيم، وطريقة نطقها، كله ذو أثر مباشر في معناه، وله كبير أداء في الكشف عن مرماها، ومغزاها.

كما أن دراسة الجملة (أي التركيب) له إسهامه كذلك في بيان مقصود القرآن الكريم، وهدفه، والجملة القرآنية بترتيبها: تقديمًا، وتأخيرًا، أو ورودها على الأصل، أو مجيء الحذف فيها، ودخول العوارض عليها، توضح هي الأخرى أغراضًا لم تكن لتكون إلا بهذا الترتيب الذي أنزله الله في كتابه الكريم.

فالمقصود بالبِنية هو دراسة الجانب الصرفي، وأثره الدلالي، والمراد بالتركيب هو دراسة الجانب النحوي، وتأثيره السياقي، وتحليل الجملة كاملة، وليس الاقتصار على الجانب الصرفي، أو اللفظي فقط، فكلٌّ من الدراسة الصرفية والنحوية تكشف لنا عن مراد الآيات، ومقاصدها، وما ترمي إليه من أهدافٍ، ورؤًى، ومَعَانٍ.

فدراستنا هنا سترصد ما أدَّاه النظرُ الصرفيُّ، وما فعله النظرُ النحويُّ من بيان دلالات النص القرآني، وما أسهم به من كشف عن الإعجاز البياني في الكتاب العزيز، وارتباطه بالجانب التربوي، والقيمي الذي ترمي إليه الآيات الكريمة، وتعاضد الجوانب البلاغية، والنحوية، والصرفية في كشف جلال النص، وكمال مراميه، وبيان ما فيه من وجه الإعجاز، ومطالبه التربوية، والإيمانية، والقيمية.

ونتناول هنا دورَ كلٍّ من: البنية، والتركيب في مطلع سورة الإسراء التي سَجَّلَتْ أعظم حَدَثٍ في تاريخ الإسلام، ذلك الحدث هو المعجزة التي أيَّدَتْ رسول الله، ومكَّنت له، ولدينه، وكان من ورائها خيرٌ كثيرٌ لأمة الإسلام، وبيَّنت مدى العناية الربانية، والرعاية الإلهية للرسول الكريم(صلى الله عليه وسلم).

يقول الله تعالى:(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)(الإسراء ـ ١).

إن كلمة (سبحان) هي اسم مصدر من الفعل (سبَّح) بوزن (فعَّل) بتضعيف العين، والمصدر الأصلي للفعل هو(التسبيح)، و(سبحان) علم على التسبيح، وهو التمجيد، والتعظيم، وهي كلمة ممنوعة من الصرف لزيادة الألف والنون، لكنها مضافة أزلًا، ودائمًا، فتصرف، وتجر بالكسرة؛ لأجل تلك الإضافة.

وقد استعملها القرآن الكريم هكذا غريبة جديدة؛ لغرابة الحدث، وجِدَّته، وإعجازه، فناسب اللفظُ معناه، وقام الحرفُ فيها بمبناه، ومغناه، وهنا كذلك إيجاز بالحذف، حيث حُذِفَ الموصوف، وأقيمتِ الصفة مقامه، والأصل:(سبحان الله الذي..)، ولكنه حُذِفَ الاسم الكريم؛ للعلم به، ولأنه لا تَرَدُّدَ في قبوله، ولا شكَّ في الإيمان به، ووجوب التسليم له، وأن العقيدة الصحيحة لا تأباه، بل تفرض الإيمان به.

والفعل (أسرى) فعل ثلاثي مزيد بالهمزة، والثلاثي منه:(سَرَى)، و(سَرَى) الثلاثي تعني المشي ليلًا للشخص وحده، فلديْه القدرة على المشي ليلًا وحده، لكنها في الآية ورد فيها الهمزة التي تعني أن الله هو الذي أقدره، ومنحه الإسراء، فـ(أسرى) بوزن (أفعل) مصدره (إسراء)، فلم يَدَّعِ الرسولُ الكريم (صلى الله عليه وسلم) أنه سَرَى بنفسه، وإنما كلُّ الحادثة هي من صنع الله، وهي دليلٌ على قدرته، وعظمته، فالهمزة هي همزة الاقدار، والاستطاعة، فكأنه عَدَّى إليه القدرة على السُّرَي، وبقدرة الله أسراه ليلًا، فالهمزة دفعَتْ عن الرسول ما زعمته قريشٌ من تخرُّص، وتعجُّب، عندما جاءت إلى أبي بكر الصديق(رضي الله عنه)، تقول: (إن صاحبك يزعم أنه سَرَى إلى بيت المقدس الذي تُضْرَبُ إليه أكبادُ الإبلِ شهرًا ذهابًا، وشهرًا عودة، وإيابًا، وعاد في الليلة نفسها، ومكان نومه لا يزال ساخنًا)، فالهمزة دحضتْ ظنَّهم، وظلمهم للرسول الكريم، فلم يقل:(سَرَيْتُ)، وإنما جاءت الصيغة بالهمزة في أول الفعل:(أسرى) أي: أن الفعل كله من الله القادر، القدير، المقتدر، فهي همزة الدحض، والاقدار، ووضعتْ حَدًّا لظنونهم، وفاصلًا بين قدرة البشر، وقدرة رب البشر، وأنها حادثة تبين عون الله، ورقابته لكونه، وتأييده لأنبيائه ورسله، وأنه قيوم رقيبٌ حسيبٌ لكل ما يحدث في كونه الواسع الرحيب.

وقوله:(بعبده) الباء هنا بمعنى المعية، أي مع عبده، أو تفيد المصاحبة، أي مصاحبًا عبده، وهو بمعيته، وفي حفظ ربه خالق السماوات، والأرض، والذي له الأمر كله، والعبودية تقتضي الجسد والروح، وليس الروح فقط.

والهاء في(بعبده) إضافة للتشريف، وقد جاء القرآن بهذا الوصف الذي يشرِّف المخلوق، ويرفع قدره، فهو أشرف وصف، وهو وصف العبودية لله، التي لا يدانيها شرفٌ، ولا يساميها عملٌ، ولا ينهض بغيرها وصفٌ، أو نعتٌ آخرُ.

وقوله:(ليلًا) فيها كثير من المعاني، وجليل القيم، وجميل الدلالات، فهي أولا ظرف منصوب، منكر، يعني أن أحداثها كانت في جزء يسير من الليل، وهو كناية عن عظمة الخالق، وسعة إحاطته بكونه، كما أنها تعني الهدوء، والصفاء، والتأمل، والراحة، والسكينة، وإعطاء الروح حقها في النظر إلى صفحة السماء الصافية، وفيها الخلوة التي تصنع الجلوة، والتفكر العائد بالرفعة، والسمو، وفيها من التربويات ما يجعل المرء يحسن استغلال ساعات الليل، حيث تحصيل التزكية، والتخلية لملء القلب، والتحلية، وحيث افتراش الجباه، وراحة الروح بالسجود بين يدي الله، وهو فرصة لبسط الشكوى إلى الله، والله سميع عليم، بصير حليم.

وقوله:(من المسجد)، فـ(مِنْ) هنا لابتداء الغاية المكانية، و(إلى) المسجد لانتهاء الغاية المكانية، فقد حددت (من)، و(إلى) بداية الرحلة الأرضية(الإسراء)، ونهايتها قبل رحلة المعراج من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى، ونوال شرف فرض الصلاة فوق السماوات السبع؛ حيث إنها معراج المؤمن إلى ربه.

فقد أسهمتْ تلك الحروف في الكشف عن بدء الرحلة الأرضية، وانتهائها، وبينت عظمة الخالق التي أوصلتْه في ثوانٍ معدوداتٍ بالبراق المشتق من البرق، والوصول في لمح البصر إلى ما بعد تخيلات، وتفكير البشر، حيث كان يضع البراقُ حافره عند منتهى بصره، فهو خَلْقٌ غريب، لا يستطيع العقل تصوره، بمعنى أنه يضع قدميْه على بعد مئات، وآلاف الكيلو مترات، كأنه أسرع من أسرع الطائرات العملاقة التي لا ترى من سرعتها، بل أسرع من الصوت مرات ومرات.

وكونه ـ أي الإسراء ـ كان بين مسجدين ، فهو هو إعلان بأنها رحلة طهر، وتنقية، وعبادة، وتزكية، كما أنه إعلام بوراثة المسجدين، ودخولهما ضمن ممتلكات المسلمين إلى يوم الدين، والأصل في كلمة (مسجِد) أنها اسم مكان، وأن تكون بفتح الجيم؛ لأنها من الفعل: (سجد، يسجد) (بضم عين الميزان)، فكان من حقها أن تكون (مسجَد) بفتح الجيم، لا بكسر الجيم، مثل:(خرج يخرج من هذا المخرَج)، (بفتح الراء)، ودخل يدخل من هذا المدخَل (بفتح الخاء)؛ فاسم المكان والزمان من الفعل (فعًل ـ يفعُل بضم العين في المضارع) يكون (مفعَل) بفتح العين لا بضمِّها، ولا بكسرها، ولكنَّ القرآن الكريم هنا مضى على الاستعمال العربي الحقيقي، الواقعي، المستعمل على ألسنة العرب، يقول الله تعالى:(بلسانٍ عربيٍّ مبين)، فاستعمل النطق العربي، ولم يستعمل القاعدة النحوية المصنوعة، وهو دليل على صدق القرآن الكريم، ونزوله وفق اللسان العربي كما ذكر ـ سبحانه.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية

[email protected]