الأحد 22 ديسمبر 2024 م - 20 جمادى الآخرة 1446 هـ
أخبار عاجلة

اللحمة الوطنية والوعي سياج المستقبل الوطني

اللحمة الوطنية والوعي سياج المستقبل الوطني
الأربعاء - 18 ديسمبر 2024 03:11 م

خميس بن عبيد القطيطي

60

تعترض الأوطان والشُّعوب قضايا مصيريَّة وهموم وطنيَّة واستهدافات خارجيَّة قد تُعَدُّ هي الأخطر في حالة التَّنافس الدّولي وحمَّى المصالح الكُبرى. ولا شكَّ أنَّ منطقتَنا العربيَّة قد تحمَّلت الكثير من التَّدخُّلات الخارجيَّة خلال التَّاريخ وذلك لأسبابٍ مُتعدِّدة، مِنْها النُّفوذ الاستعماري ووجود هذه الأُمَّة ضِمْنَ نطاق جغرافي متقاطع مع أُممٍ وحضارات متنافسة، وأخيرًا بسببِ تغلغل القاعدة الاستعماريَّة الصُّهيونيَّة في قلبِ الوطن العربي (فلسطين) مهَّدتْ لها القوى الاستعماريَّة قَبل قرنٍ من الزَّمان، وما زالتْ هذه الغدَّة السَّرطانيَّة تُجسِّد أغْلَبَ مشاكل الوطن العربي. وقد ناضلَ الأجدادُ في سبيلِ الحفاظ على وحدة التُّراب الوطني والحفاظ على حياض الأُمَّة العربيَّة، ولم يسلمْ قُطرٌ عربي في حقبة الاستعمار، لكن سرعانَ وما تَعُودُ هذه الأقطارُ وتتصاعد فيها الحركة الوطنيَّة حتَّى تُحقِّقَ الاستقلال. وقدَّمتْ أُمَّتُنا ملايين الشُّهداء، وما زالتْ حتَّى اليوم تُقدِّم التَّضحيات تأكيدًا على أنَّ هذه الأُمَّةَ حيَّة وصامدة ولن يأفلَ نجمُها، كما أنَّها كانتِ القاعدة الَّتي انطلقتْ مِنْها الرِّسالات السَّماويَّة، فلم يخرجْ نبيٌّ أو رسول إلَّا من هذه الجغرافيا العربيَّة فكانتْ أُمَّتُنا العربيَّة أكثرَ الأُمم ابتلاء.

العالَم اليوم يعيشُ أمام مفترقِ طُرقٍ وحالةً ضبابيَّة لا يُمكِن التَّكهُّن بمستقبل الأحداث فيها، وخصوصًا في ظلِّ المتغيِّرات المُتسارعة، وقد جسَّدتِ الحالة العربيَّة اليوم وغياب المشروع العربي وغياب التَّعاون العربي والتَّضامن العربي، وغياب إرادة المواجهة، وتَشظِّي المواقف العربيَّة أسوأ مرحلة في تاريخ الأُمَّة.. ورغم أنَّ الشِّعرَ العربي يُذكِّرنا بالبَيْتِ القائل: «كلَّما أنَّ جرح في العراق.. ردَّد الشَّرق جرحه في عمان». ولكنَّ هذه المشاعرَ العربيَّة ـ رغم حقيقتها المتوَهِّجة في الضَّمائر العربيَّة ـ تقف اليوم ـ للأسف ـ عاجزةً، وأحيانًا متخاذلةً عن تقديم أيِّ إسنادٍ للأشقَّاء في أغْلَبِ قضايا الأُمَّة من فلسطين إلى العراق إلى سوريا إلى اليمن فالسودان، وغيرها من القضايا المصيريَّة الَّتي تعصف بالأُمَّة العربيَّة. وللأسف تبدَّلتِ السِّياسات العربيَّة وتنوَّعتِ التَّحالفات، ولم يستطعِ الواقعُ العربي تحقيقَ منجزٍ يناوشُ المستقبل في التَّغيير وبناء المشروع العربي. وليس أدلَّ على هذا الواقع ممَّا يتعرض له الأشقَّاء في قِطاع غزَّة وفلسطين من عدوان بربري استهدف الحجَر والشَّجر، لم يُبقِ شيخًا أو طفلًا أو امرأةً خارج نطاق هذا العدوان. ومع ذلك لم يستطعِ الأشقَّاء تقديمَ النُّصرة لهؤلاء الأشقَّاء منذُ السَّابع من أكتوبر 2023م وحتَّى اليوم، وثارتْ شُعوبُ العالَم وعمَّتِ التَّظاهراتُ مُدُنَ العالَمِ جرَّاء ما يحدُث من عدوان همجي نفَّذه الإرهاب الصهيوني المدعوم من قوى دوليَّة الَّتي لم تتحرجْ أن تُقدِّمَ نَفْسَها على صدارة تلك الجريمة أمام مرأى وسائل الإعلام العالَميَّة، في حالة تجرُّدٍ من القوانين الدّوليَّة وانفلات أخلاقي، وتجاوُزٍ لكُلِّ الأعراف والمبادئ الإنسانيَّة، فلم يستطعِ العربُ تقديمَ النُّصرة في ظلِّ هذا الانفلات؛ وآلة الإجرام تحصد يوميًّا المئاتِ لِيتجاوزَ عددُ الشُّهداء (55) ألفَ شهيدٍ وأكثر من مئةِ ألفِ مُصاب، ومارَسَ العدوُّ سياسةَ التَّجويعِ والتَّهجير واستهداف المناطق السكنيَّة المأهولة وتدميرها بشكلٍ متعمَّد؛ لمحاولةِ استعادةِ زمامِ المبادرة المفقودة للبحثِ عن انتصارٍ واهمٍ لم يتحقَّقْ طوال الفترةِ الماضية. وما زال العدوانُ مستمرًّا، وما زالتِ الأُمَّةُ تسجِّل حالةَ غيابٍ تاريخيَّة، ولم يسْلمِ العديدُ من الأوطانِ العربيَّة من تلك الاستهدافات تحت عناوين ظاهريَّة مختلفة كانتْ نتائجُها سقوط الدوَل، وتغيير خريطة الوطن العربي؛ لإعادة قبلة الحياة أوَّلًا للكيانِ المنهار ثمَّ استثمار التَّطوُّرات الأخيرة في تنفيذ مشروع «إسرائيل» الكُبرى من النِّيل إلى الفرات.. والحقيقة المستهدفُ هُنَا هو الجغرافيا العربيَّة من المحيطِ إلى الخليج لفرضِ الأمْرِ الواقع في قهر الشُّعوب وتدمير الدوَل، وتنفيذ مشاريع خارجيَّة للأسف معلومة لدَى صنَّاع القرار العربي دُونَ إبداء أيِّ مقاوَمةٍ أو تقديم مواقف في إطار وحدة ضمنيَّة تُشكِّل سياجًا يحافظُ على ما تبقَّى من هذه الجغرافيا، بل إنَّ المخاطرَ اليوم تحدقُ بالأوطانِ العربيَّة دُونَ استثناءٍ في هذا الصِّراع العالَمي.

المخاضُ العالَمي الَّذي يتشكَّل اليوم في العالَم بفعل الرِّياح العاصفة والرِّمال المُتحرِّكة ضِمْنَ هذه التَّحوُّلات الدّوليَّة، يأتي الوطن العربي كأهمِّ وأبرز ضحاياها، وقد وصلتْ شظاياها أسوار عواصم عربيَّة من بغداد إلى صنعاء إلى دمشق إلى طرابلس والخرطوم وبيروت، وجميع العواصم العربيَّة غير معفيَّة في هذه الظُّروف، وما زالتِ العواصفُ تتقلَّبُ من بلدٍ إلى آخر يقابلُها ـ للأسف ـ حالةً من الجمود العربي مع مشاهدة لكُلِّ تلك الأحداث الزَّاحفة بالعينِ المُجرَّدة، وكأنَّ الأمْرَ في أيِّ قُطرٍ عربي لا يعني البلدَ الآخر، وكأنَّ الآخرَ بمنًاى عَنْها في حالةِ غيابٍ تاريخيَّة للعقلِ العربي، وكأنَّ الأمْرَ لا يعني النِّظام الرَّسمي العربي، بل إنَّ هناك من الأنظمة العربيَّة اللَّاهثة وراء تحالفات فضفاضة وعلاقات هشَّة مع دوَل الاستعمار تُبعدها عن محيطها العربي؛ لِتحافظَ على تَشظِّي الموقف العربي. وليس بعيدًا أن تكُونَ هذه العلاقات الطَّريق المُخيف الَّذي تَسير فيه تلك الدوَل في المستقبل المنظور لِتصبحَ لُقمةً سائغة بعد تحقيق المآربِ حينها لا ينفع النَّدم.

الأوطان هي البقيَّة الباقية لكُلِّ شَعبٍ عربي أرادَ الحفاظَ على مستقبل بلدِه وأبناء وطنِه بعد أن أثبتَتِ التَّجارب الأخيرة أنَّ العواصفَ عِندَما تتحرَّكُ لا يُمكِن أن تقفَ في حدودٍ مُعيَّنة. ولو ـ لا سمحَ الله ـ وصلَتْ في أيِّ قُطرٍ عربي لا ينتظر المساندة من الأخ والشَّقيق، وعَلَيْه هُنَا أن يجنِّدَ قواه الحيَّة بما يمتلكُ من قدراتٍ وطنيَّة وأرواقِ قوَّة يُمكِن دفعُها في هذه المواجهة المصيريَّة. فإن لم يكُنْ مستعدًّا لهَا فرُبَّما تقضي على حاضرِه ومستقبلِه، وتجعل الأوطان والشُّعوب تحت طائلة قوى الشَّيطان الَّتي لا تعرفُ القِيَم ولا الأخلاق ولا الضَّمير.. ومن هُنَا باتَتِ المسؤوليَّةُ الوطنيَّة للشُّعوب وصنَّاع القرار أكبر من أيِّ وقتٍ مضَى؛ باعتبار أنَّ الأمنَ والأمان والاستقرار هي أهمُّ ما يَجِبُ الحفاظُ عَلَيْه في ظلِّ هذه الظُّروف والمتغيِّرات وامتلاك أوراق القوَّة الوطنيَّة هي الَّتي تُشكِّل سياجًا مانعًا لأيِّ خلَلٍ ولا يسمحُ النَّفاذ إِلَيْه.

نحن اليوم لا نتحدَّث تحت عناوين التَّضليل والتَّطبيل والتَّنظير، بل نطرق قضيَّة باتَتْ من أهمِّ القضايا المصيريَّة الَّتي لاحتْ في الأُفق؛ وعَلَيْنا كشَعبٍ ـ بمختلف شرائحِه ـ أن نكُونَ في مستوى الوعي والمسؤوليَّة للمرحلةِ المُقبلة وعَلَيْنا أن نعدَّ أنْفُسَنا جيِّدًا لأيَّة محاولات استهداف، ونكُونَ على قدر العزم والعزائم الوطنيَّة نَحْوَ مزيدٍ من اللُّحمة الوطنيَّة نُعزِّز الالتفاف بَيْنَ القيادة والشَّعب، ونُشكِّل رافعةً لحالةِ الوعي الوطني واليقظة التَّامَّة لأيِّ محاولات تمَسُّ الوطن والدِّفاع عن حياضه، وهو لا شكَّ دِفاع عن الوطن والأرض والعِرض والمَصير، وهذا ليس خيارًا، بل هو واجب وطني محتوم لا يُمكِن التَّخلِّي عَنْه تحت أيِّ ظرفٍ أو طارق من طوارق الهموم الوطنيَّة الداخليَّة الَّتي قد يُعاني مِنْها أيُّ وطنٍ في العالَم.. فالمسؤوليَّة هُنَا أكبر للدِّفاع عن الأوطان. ولا شكَّ أنَّ تاريخَ هذا الوطن يجسِّد ذلك النّموذج الوطني وقد أثبتَتِ التَّجارب التَّاريخيَّة أنَّ الأجدادَ والأسلاف دافعوا عن حضارة وتُراب الوطن. أمَّا التَّدخُّلات الخارجيَّة فبالعزيمة والوحدة تجسَّدتِ المسؤوليَّة الوطنيَّة في مفاصلَ تاريخيَّةٍ عدَّة فحقَّق الأسلافُ تلك المعادلة الوطنيَّة بكُلِّ امتيازٍ رغم شظَفِ العيشِ وظُروفِ المعيشة.. ونحن اليوم هُنَا أوْلَى وأجْدَر بإعلاءِ قِيمة الوطنِ والدِّفاع عن حياضِه، وتقديم التَّضحيات الجسيمة إذا ما دعَا الدَّاعي، ونحن في عُمان الأجدرُ بهذه المواقف الوطنيَّة، ليس لأنَّ تاريخَنا يقول ذلك، بل لأنَّنا في بلدٍ يحمل رسائل الخَيْر والسَّلام للعالَم أجمع، ونحن كأبناء لهذا الوطن عُمان ترسَّخت فِينا كلمةُ رسولِنا الكريم الصَّادق الأمين: «لو أنَّ أهْلَ عُمانَ أتَيْتَ ما سبُّوك ولا ضربوك» فهُنَا المُثل والقِيَم والأخلاق والإنسانيَّة الَّتي تجذَّرت في أبناء هذا الوطن وفي السياسة العُمانيَّة أيضًا. نسألُ الله أن يحفظَ عُمانَ آمِنةً مستقرَّة تحملُ رسائلَ الخيرِ والسَّلام، وتدعم القضايا العادلة حَوْلَ العالَم كما هو عهدها، والله المستعان.

خميس بن عبيد القطيطي

[email protected]