الخميس 14 نوفمبر 2024 م - 12 جمادى الأولى 1446 هـ
أخبار عاجلة

نبض طبيب : أشلاء فـي مزادات الإنسانية

نبض طبيب : أشلاء فـي مزادات الإنسانية
السبت - 09 نوفمبر 2024 06:19 م

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

70

لَطالَما تردَّدتُ في الكِتابةِ عن غزَّةَ حقيقةً.. فجَوْفي فارغٌ مِنَ الكلماتِ، ماذا عساني أخطُّ بأحْرُفٍ قانيةٍ عن بقعةٍ مذبوحةٍ، حيثُ تُدوِّي فيها حشرجةُ طفلٍ يلفظُ أنفاسَ حتْفِه، تُدوِّي فيها أصواتُ القذائفِ كما تُدوِّي آياتُ الصَّبرِ في أفواهِ عُزَّلٍ استنشقوا رائحةَ الموتِ وأَلِفُوا نكهةَ الرَّماد...؟

قرَّرتُ التَّنازلَ عَنِ اللُّغةِ المُزخرفةِ، وتحبيرِ الكلماتِ لمقالٍ رصينٍ وأنا الَّتي لَطالَما فكَّرتُ في كيف سأنمِّقُ الألفاظَ وأنسجُ المجازَ. ولكنْ سأكتبُ اليوم بصدقِ اللَّحظة دُونَ أنْ أحاكمَ كلماتِي بمحكمةِ العقلِ، أو أنْ أضعَها في قفصِ التَّنقيحِ والمُراجعة. أنا الَّتي لَطالَما كانتْ لديَّ القدرةُ على التَّلوُّنِ بقناعِ العقلِ، لكنِّي اليوم سأخلَعُه لأكتَبَ بعفويَّة.. لقَدْ أرهقَني هذا العقلُ الَّذي لا يكفُّ عَنِ البحثِ عن الكمالِ، وأريدُ أنْ أتركَ له قسطًا مِنَ الرَّاحة كمحاولةٍ للتَّمسُّكِ بالمنطقِ في زمَنٍ عارٍ مِنْ كُلِّ منطقٍ! سأخطُّ ما يَشعُر به القلْبُ، سأكتُبُ بطبيعتي؛ لأنَّ محاولتَنا للكتابةِ بغيرِ ما نحنُ عَلَيْه تجعلُنا أسْرَى الادِّعاء. حِينَما نُظهرُ هدوءًا زائفًا والنَّارُ تشتعلُ في صُدورِنا، فإنَّنا نخونُ أنْفُسَنا، وحِينَما نكتمُ هجاءً يعتملُ فِينَا منذُ دهورٍ هجاءً لنَا ولَهُم ولَكُم، لكُلِّ مَنْ حضرَ وغابَ فإنَّنا نضيعُ على أنْفُسِنا فرصةَ الصُّراخ في وَجْهِ هذا العالَمِ البَشِع.

السَّاسةُ المُتآمِرون بوجُوهِهم المُتجَهِّمة حَوَّلوا المدينةَ الَّتي تنهشُها ضواري الأرضِ إلى ساحةِ مزادٍ مبتذلٍ تُباعُ فيها الأجسادُ المُمزَّقةُ في بورصةِ المَوْتِ، ولا يتردَّدُ السَّماسرةُ في تحويلِ الأشلاءِ إلى أسْهُمٍ يُتاجرونَ بها في أسواقِ الدِّماء..! مُنظَّماتُ الإغاثةِ تستعرضُ صُوَر أجسادِ الجياع، وتطبعُ عَلَيْها شعاراتِها التَّرويجيَّة في معارضِ الإنسانيَّة، مُستخدمةً المآسيَ كأيقوناتٍ لمشاريعِها... غزَّة أصبحَتْ مادَّةً دسمةً لِصُحفيِّين يُغرقونَنا بزخمٍ بتحليلاتٍ بليدةٍ لِفواجعَ مُدْمية خلْفَ صُوَرِ أشلاءٍ معجونةٍ بالتُّراب، وصُوَرِ أُمٍّ تحتضنُ بقايا جثَّة، وما تبقَّى مِنْ أمَلٍ، وما تبقَّى مِنْ حياةٍ؟! يعرضونَ أرقامًا وجداول من شلَّالٍ جنائزيٍّ من الدَّمِ النَّازفِ لآلافِ الشُّهداءِ صعدَتْ أرواحُهم للسَّماءِ برعايةِ إعلاناتٍ باهظةٍ تُغطِّي هذه النَّشراتِ لِتُدثِّرَ الألَمَ بلُغةٍ تجاريَّةٍ باردةٍ.. وأيضًا محضُ إلهامٍ لِمُصوِّرٍ طامحٍ لِيفُوزَ بجائزةِ أفضلِ صُورةٍ إنسانيَّةٍ وهو يقتنصُ صُورةُ لِطفْلٍ بُتِرَتْ أطرافُه بلا مُخدِّرٍ، يُنازعُ دُونَ الاكتراثِ بتفاصيلِ اللَّحظةِ.

خُذلانٌ ساحِقٌ مِنْ وسيطِ سلامٍ ينفُثُ النَّارَ في حَربٍ يزعمُ أنَّه يُريدُ إطفاءَها يتظاهرُ بالحِياد! مَنِ الَّذي يُصدِّقُ مساعيَ صانعِ المَوْتِ والسِّلاحِ لِتَحقيقِ السَّلام؟! بِيَدِه اليُمنَى يمدُّ المُعتدِي بأطنانِ القذائفِ، وبِيَدِه اليُسرَى يُلقِي مظلَّاتٍ تحملُ فتاتٍ مِنَ المساعداتِ! هي نَفْسُها الطَّائراتُ الَّتي أغرقَتِ الأرضَ بالصَّواريخِ المُوَجَّهة، ثمَّ عادتْ تتنكَّرُ في زيِّ حمامةِ سلامٍ لِتُسقطَ مظلَّاتِ الإغاثةِ، تُلقِي بِلَظاهَا على طفلٍ لم يَجِدْ سلاحًا سِوَى حجَرٍ يقذفُه للسَّماءِ بعد أنْ أطفأتْ نيرانُها حياةَ عائلتِه، وهدَمتْ بَيْتَه وأمْنَه وسُكونَه... عَنْ أيِّ وسطاء سلامٍ تتحدَّثون؟!

أيْنَ الضُّميرُ الإنسانيُّ حِينَما تتحوَّلُ البُيوتُ إلى ركامٍ، والمآذنُ إلى صدًى لا يسمعُه أحَدٌ؟ أيْنَ تلك المبادئُ الَّتي كُتِبتْ في مواثيقِ حقوقِ الإنسانِ، وتلك القوانينُ الَّتي نُقشِتْ في أحجارِ التَّاريخ؟! ما معنَى حقوقِ الإنسانِ إنْ كانتْ تُمنحُ لجماعةٍ وتُحرمُ مِنْ أُخرى؟ ما معنَى القانونِ الدّوليِّ إنْ كانَ يُطبَّقُ بمعاييرَ مزدوجةٍ يُبرِّرُ القتْلَ هُنَا، ويُدِينُ العُنفَ هُنَاك؟ هلْ باتَتِ المعاهداتُ والاتفاقيَّاتُ مجرَّدَ شعاراتٍ تُزيِّنُ جدرانَ المُنظَّماتِ بَيْنَما تُنتزعُ الأرواحُ بلا حسيبٍ أو رقيبٍ؟

أبْحثُ في المعاجمِ العربيَّةِ والعسكريَّةِ والسِّياسيَّةِ عَنْ تَعبيراتٍ لأرثيَ زَيْفَ مَناهجِنَا الَّتي علَّمَتْنَا أنَّ فلسطينَ هي قَلْبُ العروبةِ النَّابضُ، ما عادَتْ تهزُّني أناشيدُ طُفولتِنَا الَّتي حَفظْناها عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ بعدَ أنِ اكتشفتُ مدَى زَيْفِ الخُطبِ الَّتي حدَّثتْنَا عن أُولَى القِبلتَيْنِ وثالثِ الحرَمَيْنِ بما نُعايشُه اليومَ من نَكْبةٍ وعَجْزٍ بِيْنَما يتخبَّطُ أطفالُ مدينةٍ عربيَّةٍ في بِرَكٍ من دمائِهم وسطَ قُصورٍ من ترسانةِ السِّلاحِ لدَيْنَا عَنْ نَجْدتِهم، بَيْنَما يَمضي العالَمُ بِدَمٍ باردٍ مُتبلِّدٍ في صخَبِ يَوْمِه وكأنَّ شيئًا لم يكُنْ.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

طبيبة وكاتبة عمانية