الجمعة 03 يناير 2025 م - 3 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

نبض طبيب : من مجد الحضارة إلى تشظي الهوية

نبض طبيب : من مجد الحضارة إلى تشظي الهوية
السبت - 02 نوفمبر 2024 04:34 م

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

80

منذُ الأزلِ كانتِ الهُوِيَّة العربيَّة رمزًا للقوَّة والوحدة تمتدُّ كالبنيان المرصوص من المحيط إلى الخليج من أعالي جبال الأطلس إلى رمال الجزيرة. لكنَّنا اليوم نرَى هذا البنيان يتهاوى أمام أعْيُننا؛ إذ تتسلَّل الفُرقة إلى قُلوبنا كالسُّم الزُّعاف، فطغَتْ أزمة الهُوِيَّة والتَّصنيفات العِرقيَّة والدِّينيَّة على جوهر الوحدة الثَّقافيَّة والحضاريَّة الَّتي جمعَتِ العرب عَبْرَ قرونٍ. وبِتْنا نعيشُ الانقسامات الَّتي نصنعُها بأيدينا ثمَّ نصدِّرها لبعضِنا عَبْرَ رسائل الحقدِ والكراهيَّة العابرة للحدود،ِ وإعادة تقسيم المُجزَّأ وتفتيت المُفتَّت في غفلةٍ عن التَّاريخ الَّذي كتَبْناهُ بأنْفُسِنا.

دوَّامة التَّصنيفات الأيديولوجيَّة والدِّينيَّة تستنزف الرُّوح قَبل أن تلمسَ العقل وتتشظَّى الأُمَّة إلى أشلاء.. فللأسف الشَّديد يرَى بعضُ العربِ إخوانهم ليسوا إلَّا حشودًا من الزَّنادقة والتَّكفيريِّين والخوارج، ومجاميع مرتزقة عبيد للمنافِقِين والعملاء. وفي فصلٍ مأساوي آخر من هذه الحكاية، انحلَّتِ الرَّوابط وتصدَّعتِ الأواصر بَيْنَ عرب الاتِّجاهات من الشَّرق والغرب، بَيْنَ بَدوٍ رُحَّل وحضرٍ مِنْهم بلا قِيَم أو خليطٍ بلا جذور أو بما تجودُ به البراري وما تلفظُه البحار.

كُلُّها ألفاظٌ وأوصافٌ تؤجِّج نزعات الانعزال والتَّفرقة، أصبَحْنا نعتدي على أنْفُسنا باسْمِ العروبة والدِّين، حيث هناك مَن العرب يرَى بعضه الآخر خوَنةً وروافض وخوارج، وانفصاليِّين ومُتطرِّفين و...إلخ، وهناك مَن يُلقي بإخوته خارج دائرة العروبة مُعيِّرين إيَّاهم بأصولٍ يُقال إنَّها بقايا فُرْس وأحباش وأتراك، غافلينَ عن أنَّ العروبة ليسَتْ مبنيَّةً على صفاء العِرق، بل هي حضارةٌ عظيمة احتضنَتِ الشُّعوب المُتنوِّعة الَّتي أسهمَتْ في نهضتِها وصناعة التَّاريخ، وتبنَّتِ اللُّغة لِتضربَ جذورًا عميقة فيها عَبْرَ الأجيال. إنَّ ما يُوحِّدنا لا يُقاس بنقاء الدِّماء، بل بعُمقِ الإرثِ الحضاري وأخوَّة التُّراب والمَصير المشترك الَّذي يصوغُ هُوِيَّتنا الثَّقافيَّة، ويجمعُ شتاتَ أرواحِنا في كيانٍ واحد. في خضمِّ هذه التَّشظيات المُتفرِّقة تهاوَتِ الأُمَّة وانكسرَتْ وحدتُها وتبعثرَتْ أركانُها؛ لِيبقَى السُّؤال معلّقًا بلا إجابة: إذا كان كُلُّ فريقٍ من العرب ينعَتُ الآخر بالخيانة للدِّين والوطن، إذن مَن هُمُ العرب؟ مَن هُمْ ورثَةُ المَجدِ حماةُ الهُوِيَّة وحُرَّاس القِيَم؟ هل اضمحلَّتْ ماهيَّتهم وتآكلتْ بَيْنَ هذه العناوين المُبتذلة والَّتي لا أصلَ لهَا في جوهر الرِّسالة الَّتي حملُوها للعالَم؟

تُشْبه هذه الاتِّهامات الجوفاء السُّيوف الصَّدئة الَّتي لا تجرح إلَّا حاملَها، إذ إنَّها تتجاهلُ حقيقة أنَّ العروبةَ ليسَتْ سلالة بيولوجيَّة بقدرِ ما هي هُوِيَّة ثقافيَّة وحضاريَّة استوعبَتْ كُلَّ مَن أسْهمَ في رفعتِها من أيِّ مكانٍ أتَى، مُتناسِينَ أنَّها بُنيَتْ على أُسُسٍ من التَّعدديَّة والتَّنوُّع. فالعروبةُ كالنَّهر العظيم لا تُسأل عن مصادر مياهِها، بل تُحتفى بقدرتها على الاستمرار والتَّدفُّق عَبْرَ الزَّمن حاملةً معها إرثَ أُمَّةٍ لا تحدُّها أُصول ضيِّقة، بل حضارة شاسعة.

نحن أمام مأساةٍ قوميَّة تتكرَّر حين ينظر العربُ إلى بعضهم من خلال عدسات أُصولٍ مزعومة أو تاريخ مختلَق، إنَّنا نقترف عدوانًا صارخًا على أنْفُسِنا، نعتدي على تاريخِنا وحضارتِنا وثقافتنا، نُجرم بحقِّ أنْفُسِنا باسْمِ العروبة، ونغتال دِيننا باسْمِ الدِّين، ونُمزِّق أوطانَنا تحت راية الوطنيَّة.

ونُمزِّق الشُّعوب بأيدي الشَّعب، وكما نُعِيد إنتاج الماضي بما يُوافِقُ خَيْبات الحاضر، ونخسر الحاضر والماضي معًا، وإذا استمرَّ هذا الحال فلا شكَّ أنَّنا نخسرُ مستقبلنا أيضًا. في خضمِّ هذا التَّشتُّت الَّذي يعصفُ بنا، عَلَيْنا أن نسترجعَ وعيًا طالَما افتخرنا به، ونُعِيدَ اللُّحمة الَّتي جعلَتْ مِنَّا قوَّة حضاريَّة لا تُقْهَر، أُمَّةً واحدة كتَبَ التَّاريخُ صفحاتِها بحُروفٍ من ذهَبٍ، حملَتْ شعلةَ الحضارةِ من مكَّة المُكرَّمة والمدينة المُنوَّرة إلى قرطبة الفاتنة، ومن بغداد الَّتي أدهشَتِ العالَم بعلومِها إلى القيروان الَّتي شهدتْ نهضةَ الفكر العربي.. نحنُ العرب الَّذين نشَروا نُور المعرفة من دمشق إلى سمرقند وإشبيليَّة، فامتدَّتْ شمسُ معارفِهم لِتُضيءَ الدُّنيا وتُغْنيها بفكرٍ لا يزال حيًّا في ذاكرة الإنسانيَّة. واليوم، أمام هذا التَّمزُّق الَّذي يُهدِّد نسيجَنا نحن مُطالَبون بأنْ نستلهمَ من هذا الإرثِ العظيم عزيمةً لا تَلين لِننهضَ من جديدٍ، ونستعيدَ وحدتَنا ونهجَنا الحضاري الَّذي حمَلْناه عَبْرَ العصور.. فالمستقبل ينتظرُ عودتنا إلى الرِّيادة وإحياء إرث أجدادنا بروح جديدة وإرادة لا تعرف الانكسار. اليوم نحن مَدْعوُّون لأنْ نقفَ مع النَّفْسِ وقفةً صادقةً وشفَّافة ومتعقِّلة وشُجاعة، وننظر إلى الأسباب الحقيقيَّة الَّتي أوصلَتْنا إلى هذا الحال من التَّمزُق والتَّشرذم، وبكُلِّ تأكيد سنجد أنَّ الاستعمارَ ـ قديمه وحديثه ـ مخلبُ القِطِّ في ذلك، هو الَّذي أوصلَنا إلى هذا الحال، الأمْرُ الَّذي يتطلبُ أنْ نراجعَ أنْفُسَنا وننفضَ عن عقولِنا وقُلوبِنا وفَهْمنا الغبَش والشُّذوذ الفكري والعداوات والكراهيَّات والفِتن الَّتي زرعَها فِينا وبَيْنَنا هذا الاستعمار الَّذي لا يزال يفعل أفاعيله وأباطيله وشروره في هذه الأُمَّة مع كُلِّ مفصلٍ من مفاصل تاريخها.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

طبيبة وكاتبة عمانية