الجمعة 03 يناير 2025 م - 3 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

روسيا.. على أرضها أشرقت الحضارات وألهمت أعمال أدبائها العظام العالم «2ـ ٨»

روسيا.. على أرضها أشرقت الحضارات وألهمت أعمال أدبائها العظام العالم «2ـ ٨»
السبت - 02 نوفمبر 2024 04:27 م

سعود بن علي الحارثي

20

تحفة «الكسندر فادييف»، «الحرس الفتى».

في مراحل تطوافي المبكر بَيْنَ عالم الرواية الرُّوسية، المفعمة بالإثارة والتَّشويق، والملاحم الأدبيَّة الغنيَّة بالمحتوى الَّتي تزدان بها أرفُف مكتبتي، وتناولتِ الأحداث والحروب الوحشيَّة، وصفحات التَّاريخ الرُّوسي وثقافة مُجتمعه وتقاليده، في قوالب روائيَّة مُمتعة، مِثل «الحرب والسِّلم»، لـ»ليوتولستوي» - «الدون الهادئ» لـ»ميخائيل شولوخوف» - «كيف سيفنينا الفولاذ» لـ»نيقولاي أوستروفسكي» - «درب الآلام» لـ»الكسي تولستوي»، و»الأبله»، الَّتي أتقن صياغة شخصيَّتها الرَّئيسة ببراعةٍ مُذهلة «دوستويفسكي»، و»الطُّفولة» لـ»مكسيم جوركي»، الَّتي ترجمَها إلى العربيَّة «أحمد الرَّحبي»، وغيرها الكثير... حيث شكَّلتِ الرِّواية الرُّوسية مدرسةً غنيَّة بالدِّراسة والتَّأليف والنَّقد والإلهام... وخلَّدتِ التَّاريخ الرُّوسي، وتناولت ْبأسلوبٍ روائي شيِّق، وعُمق فلسفي مدهش، أحداث الحرب الرُّوسية ـ الفرنسيَّة، والحرب الأهليَّة، بَيْنَ الحُمر البلاشفة، والبِيض، من بقايا الإقطاعيِّين أتباع القياصرة وأعداء البلاشفة، والحرب مع النَّازيَّة... وحفرتْ بروحٍ فلسفيَّة متمكِّنة في غور شخصيَّات تلك الرِّوايات الخالدة، بمختلف مستوياتها ودرجاتها السِّياسيَّة والعسكريَّة وطبيعتها الإنسانيَّة، وكشفتْ عن المعاناة الهائلة الَّتي تسبَّبت فيها تلك الحروب المفتعلة والمشتعلة باستمرار، تؤجِّج سعيرها مصالح السَّاسة الطَّامحين والطَّائشين المتهوِّرين، دُونَ اكتراثٍ للنَّصب والألَم والعُسر والمصائب والمذابح الَّتي تسحقُ بسطاءَ النَّاس.. لحظة الغوص في صفحات تلك الأعمال الخالدة، الَّتي أبهرَتْني وألهَمَتْني، كانتْ نَفْسي في ذات الوقت، تتُوقُ وتتعلَّق بحُبِّ وزيارة هذا القُطر الآسيوي ـ الأوروبي، الَّذي عُدَّ وما زال قوَّة عُظمى تؤدِّي أدوارًا حاسمة في الأحداث العالَميَّة. وها أنا اليوم أُحقِّق هذا الحلم الَّذي بادرَ بطرحِه عددٌ من الأصدقاء الخُلَّص، في لقائنا الأسبوعي، فكان الإجماع بالموافقة، إعلان صريح عن الرَّغبة والشَّغف واللَّهفة في زيارة بلدٍ تأخرتْ كثيرًا وآنَ أوانُ تحقيقِها.. وكانت موسكو آخر المُحطَّات النَّشطة العديدة، الَّتي ألغاها الطَّيران العُماني ـ في بدايات هذا الضَّيْف ـ من خريطة رحلاته، المقرَّة قَبل سنوات، والضحايا آلاف المسافرين العُمانيِّين الَّذين أُجبروا على تحويل رحلاتهم إلى شركات نقلٍ أخرى في المنطقة، تأخذهم إلى مطارات مجاورة، وتجبرهم على قضاء ساعات انتظار الترانزيت، تستهلك الكثير من الوقت والجهد والصحَّة والمال، والتَّساؤلات وعلامات التَّعجُّب هي ذاتها تتكرر مع كُلِّ عمليَّات حجزٍ جديدة تَقودُنا إلى دوَل ومُدُن تتلألأ في عالَمنا الأرضي الفسيح، فلم يكُنْ أمامنا من خيار سوى البحث عن شركة طيران أخرى، فكان الأنسبَ وقتًا والأقلُّ تكلفة، «الاتِّحاد»، عن طريق مطار أبوظبي، فحجزَ لنَا بتاريخ الـ(٢٨) من سبتمبر ٢٠٢٤م، قائد هذا التّطواف الأخ المُحب منير الرواحي، الَّذي بذلَ جهدَه ووظَّف خبراته المتراكمة في إنهاء إجراءات سفرِنا إلى روسيا، ولولا نشاطه المتَّقد وإخلاصه وتفانيه غير المحدودَيْنِ، ما تحقَّق هذا النَّجاح المُرضي، فلَه مِنَّا خالِصُ الوُدِّ والشُّكر اللَّذيْنِ لا يوفياه حقَّه. أخذنا من مطار مسقط ـ مع توقُّفٍ لمدَّة ساعتَيْنِ ترانزيت ـ إلى العاصمة الرُّوسية حوالي ثماني ساعات، ورفيقي في رحلتي، رواية «الحرس الفتى»، للكاتب الرُّوسي البارز، «الكسندر فادييف»، وقد اقتنيتُها من «معرض الكِتاب العاشر» بمسقط في الـ(25) من فبراير 2005م، ولم تُمكِّني ظروف الوقت والانشغالات بالعمل من قراءتها بعد، فكانتِ الفرصة مواتيةً مع تحقيق الهدف بزيارة موطن كاتبها. قِيل عَنْها بأنَّها: «رواية هزَّتِ العالَم. ذاعَ صيتُها لِتصبحَ الأوسعَ انتشارًا والأكثرَ طباعةً وتوزيعًا في الدَّولة السوفيتيَّة...»، فقد تجاوزَ عددُ طباعتها المئات، ونُسخها عشرات الملايين، وتُرجمتْ إلى مُعْظم لُغات العالَم الحيِّ، وتجسِّد فكر وتضحيات مجموعة من الشَّباب الَّذين تعاهدوا على مواجهة الغزاة الألمان، وتَدُور أحداثها في مدينة «كراسنودون»، في أوكرانيا، عام ١٩٤٢م، بعد أن «اقتحم المُحتلُّون الألمان المدينة، حيث أعلنوا في احتفالٍ كبير إرساء «النِّظام الجديد». وفي ذلك الحين تشكَّلت منظَّمة سريَّة من أعضاء الكومسومول تُسمَّى «الحرس الفتى» ضمَّت حوالي مئة شابٍّ وفتاة». و»ساعدتْ لقاءات فادييف مع أقارب وأصدقاء «الحرس الفتى»، على أن يرسمَ وأن يُشكِّل وعيُه صورةً كاملة لنضالِ واستشهاد هؤلاء الأبطال...». تمازج العرقيَّات داخل الوطن، اختلاف اللَّهجات في اللُّغة الواحدة، تصرُّفات النَّاس وقتَ الحروب بَيْنَ الاستغلال المَقيت، وروح الوطنيَّة الصَّادقة، انهيار المعنويَّات، صلابتها واتِّزانها، الإشاعات الَّتي تصدَّق بسرعةٍ، مشاعر العامَّة تجاه الهزائم والاستيلاء على أراضٍ جديدة، الانتصارات الَّتي تُحقِّقها المقاومة، حداثة المدينة، فتنة الطَّبيعة والرِّيف، تشخيص المشاعر الإنسانيَّة، السُّلوك البَشَري، الخيانات، قسوة الحرب وخسائرها الجسيمة، أصوات الانفجارات، الدِّماء، المعاناة... جميعها تتجسَّد ببراعةٍ وانسجام في اللُّغة، ورُقي وأناقة في الصِّياغة، وترابط تصويري مُحكم في هذه الرِّواية ـ الملحمة ـ عن الحرب والمقاوَمة والنَّاس والوطنيَّة... من كُلِّ عبارة وسطرٍ وصفحة تقفز الصوَر والأحداث حيَّة إلى ذهن القارئ، تجسِّد صفاء القلوب وهي تتدنَّس، والأرواح تتكسر، وشمل الأحبَّة وذكريات الكبار وبراءة الطُّفولة تتمزق، والأشياء الجميلة الَّتي تُشكِّل روح الحياة وفتنتها تفقد إلى غير رجعة... لوحة فنيَّة بارعة صورتِ المشاهد المزلزلة، في قوالب روائيَّة مذهلة، تُحدث تأثيرها العميق في نَفْس القارئ، وهو ما نجح «ألكسندر فادييف» في تحقيقه بنجاح. «عِندما أسمعُ ذلك القصف وأرى السَّماء ناصعة، وأغصان الأشجار، وأدوس بأقدامي الحشائش الَّتي بعثتِ الشَّمس بالدفء إليها وترامتْ رائحتُها طيِّبة، أشعر بألمٍ بالغ وكأنَّما فارقني كُلُّ ذلك إلى الأبد.. إلى الأبد. يبدو أنَّ روحي تحجَّرتْ من جرَّاء هذه الحرب..». «كم كان عصيبًا في تلك الأيَّام حال كُلِّ من رحَلَ عن أرضِه وبَيْتِه وذويه. بَيْدَ أنَّ أولئك الَّذين أسعفَهم الوقت للفرار من الألمان، يَسيرون اليوم على أرضهم، على الأرض السوفيتيَّة. أمَّا الوضع فقد كان أكثرَ تردِّيًا وسُوءًا بالنِّسبة لأولئك الَّذين بذلوا الجهود بغية الفرار من الألمان، وعاشوا مرارة إحباطها، وواجهوا الموت، ليعودوا ثانيةً إلى أراضيهم، الَّتي كانتْ بالأمس القريب موطنهم، بَيْنَما تُصبح اليوم أرضًا ألمانيَّة.. لقد راحوا يهيمون على وجوههم وحيدين دُونَ مأوى أو غذاء يائسين، فريسة رحمة ألماني منتصِر ينظر إِلَيْهم وكأنَّهم مُجرِمون...». في السَّاعة العاشرة مساء، أعلن طاقم الطَّائر المُحلِّق عن الهبوط التَّدريجي، في مطار «شيريميتييف» الدّولي الَّذي يبعُد حوالي (24) كيلومترًا عن قلبِ موسكو، وتمَّ افتتاحه في 1959م، ليستوعبَ حوالي (110) ملايين مسافر، بعد رحلة «ترانزيت»، منهِكة صحبَها تأخير في مدرجات مطار مسقط، وآخر لساعةٍ في مطار أبوظبي، لتتحوَّلَ ساعاتها المباشرة الخمس، من مسقط، لأكثر من عشر ساعات، وليس أسوأَ على المسافر من تأخير رحلته وتعقيدات الترانزيت والانتقال المُزعج والسَّريع في المطارات الخليجيَّة الضَّخمة. ما خفَّف من ضغوط الرحلة بأُسلوبه الشيِّق المُمتع، المُتحدِّث اللَّبق رفيقنا في هذا التَّطواف، الأخ سيف الشيباني، بسرده للقصص والمواقف والطَّرائف الغزيرة الَّتي تختزنها ذاكرته، فتحرِّك الشُّجون وتُثير المشاعر وتُحفِّز على الإنصات والمتابعة. ما عكَّر مزاجنا قليلَا، أنَّ مُعْظم من نقَل عَنْهم وحدَثتْ لَهُم هذه المواقف والأحداث بمعيَّته أصبحوا في عالَم الأموات، وهو ما تحوَّل بَيْنَ الرِّفاق كذلك، إلى مادَّة للدّعابة والفكاهة والتَّعليقات الطَّريفة المُريحة للنَّفْس، المُضاعفة لبهجةِ السَّفر وسعادته برفقة الأصحاب. مطار «شيريميتييف»، ليس مزدحمًا بالمسافرين، ولكن الإجراءات بطيئة وتقليديَّة، ومستواه العمراني أقلّ بكثير عن مطارات الخليج العصريَّة الأنيقة المُشبعة بفتنة العمارة وحداثتها... «يتبع».

سعود بن علي الحارثي

[email protected]