من قول الحكيم ـ جلَّ جلاله - على لسان لقمان الحكيم:(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) نستلهم أمرا يحتاجه الحكيم في لملمة أوراقه ومعرفة إحداثياته وبوصلة مساره وتصفية نفسه في ديمومة تضمن له الاستمرار، فإنه مقبل على محاسبة شديدة الدقة، وإن كانت دقتها إلى مثقال خردل من عمل.
المحاسبة في اللغة هي:(مصدر من حاسب يحاسب، مأخوذ من مادة (ح س ب) التي تدل على العدّ.. وشيء حساب أي كافٍ، ومنه قوله تعالى:(عطاءً حسابا) (النبأ ـ 36) أي: كافيًا، وقول الله تعالى:(فحاسبناها حسابًا شديدًا) (الطلاق ـ 8)، إشارة إلى نحو ما روي (من نوقش في الحساب معذّب) (نظرة النعيم)، والنَّفسُ:(الرّوح الذّي به حياة الجسد، وكلّ إنسانٍ نَفْسٌ حتّى آدم عليه السّلام، الذَّكَرُ والأنثى سواء، وكلُّ شيءٍ بعينه نَفْسٌ) (معجم العين للخليل)، وفي الاصطلاح:(أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموما استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل) (أدب الدنيا والدين، للماوردي).
وفي معنى:(والله يرزق من يشاء بغير حساب) أوجه عديدة منها: أنه يعطي المؤمن ولا يحاسبه عليه، ووجه ذلك أن المؤمن لا يأخذ من الدنيا إلى قدر ما يجب، وفي وقت ما يجب، ولا ينفق إلا كذلك، ويحاسب نفسه فلا يحاسبه الله حسابًا يضّره كما روي: من حاسب نفسه في الدنيا لم يحاسبه الله يوم القيامة.
وأهمية محاسبة النفس في أن يعيش المكلف في الدنيا كتاجر، يسعى للربح ويتجنب الخسارة، ولما كان التاجر يستعين في تجارته بعماله، فيضطر لمراقبتهم ومحاسبتهم في أعمالهم، كي ينقي عن تجارته الغش، والإهمال، والتسرّع، فهو في نفسه يمتلك نفسا محبب فيها الشهوات، والجشع، التي قد تؤدي بنفسه للخسارة، وتقلل من ربحه، فلا بد من تدقيق الحساب مع النفس.
الطموح في نيل الجنة والمخافة من الوقوع في النار والعذاب وما يتقدمه من حساب في تحديد المصير يدفع بالمؤمن أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب ليطمئن أنه على المسير الصحيح، وقد أمرنا الله بالمحاسبة في قوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر 18 20). والمحاسبة نوعان: نوع قبل العمل، ونوع بعده، فأما المحاسبة قبل العمل: التبين من رجحان العمل ونتائجه قبل الشروع فيه، ومنه التخطيط السليم، وأما المحاسبة بعد العمل: ولهذا ثلاثة أنواع: محاسبة النفس على التقصير على طاعة فيها من حق الله، لعدم توقعها على الوجه الذي ينبغي، ومحاسبة النفس على عمل كان تركه خير من فعله، ومحاسبة النفس على عمل أمر مباح أو معتاد، هل أراد به الله؟ أم أراد به غيره.
وتأتي ثمار المحاسبة في: تطهير النفس لأجل فلاحها:(قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها)، وتخفيف الحمل عن كاهل المحاسبة الأخروية، يقول الفاروق:(حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة ـ 18).
سامي السيابي
كاتب عماني
(فريق ولاية بدبد الخيري)