الأربعاء 23 أكتوبر 2024 م - 19 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : ارتفاع مؤشر حوادث السقوط الجبلي يدق ناقوس الخطر

في العمق : ارتفاع مؤشر حوادث السقوط الجبلي يدق ناقوس الخطر
الثلاثاء - 22 أكتوبر 2024 04:25 م

د.رجب بن علي العويسي

10

مع ارتفاع مؤشِّر حالات السُّقوط الجبلي المُتكرِّرة الَّتي تعاملتْ معها هيئة الدِّفاع المَدَني والإسعاف، وتزايد أعداد الوفَيَات والإصابات النَّاتجة عَنْها، سواء النَّاتجة من رياضة المَشي في المسارات الجبليَّة (الهايكنج) أو تسلُّق الجبال والنُّزول في الانحدارات العميقة، أو اكتشاف الكهوف والمغارات الجبليَّة أو هواية البحث عن عسل النَّحل كإحدى العادات المتوارثة لدَى بعض الأُسر، أو غيرها من الأسباب الَّتي أدَّت إلى تكراريَّة هذه الحوادث ذات الصِّلة بهذه الرِّياضة القديمة والمُتجدِّدة، ومع تزايد الخطورة النَّاتجة عَنْها باتَ الأمر يدقُّ ناقوس الخطر ويستدعي إعادة تقييم هذه الرِّياضة وفرض الضَّوابط والإجراءات والأدوات والآليَّات الَّتي تحافظ على درجة شغف المواطن بممارستها مع العمل على تَبنِّي سياسات وإجراءات عمليَّة والتزام أدوات الأمن والسَّلامة للحدِّ من حوادث السُّقوط الجبلي في ظلِّ تزايد الاهتمام المُجتمعي بهذه الرِّياضات، حيث تُشير إحصائيَّات هيئة الدِّفاع المَدَني والإسعاف إلى أنَّ جهود الهيئة ـ ممثَّلةً في فِرق البحث والإنقاذ ـ قامتْ بمساعدة مَن تقطَّعت بِهم السُّبل بَيْنَ سفوح الجبال أو مَن تعرَّض مِنْهم للسُّقوط في قعر الأودية أثناء ممارسة هواية المَسير الجبلي أو الرّحلات في الأماكن الوعرة الَّتي يصعب الوصول إِلَيْها بوسائل النَّقل العاديَّة، حيث أظهرتِ الإحصاءات المُتعلِّقة بهذا الجانب إلى أنَّ عدد الحالات الَّتي تعاملتْ معها الهيئة في عام 2023 بلغتْ (42) بزيادةٍ بلغتْ (12) بلاغًا عن عام 2022 والَّتي سجَّلت فيها الهيئة (30) بلاغًا، وهو مؤشِّر يعكس التراكميَّة الحاصلة في أعداد هذه الحوادث منذُ عام 2020م والَّتي سجَّلت خلالها الهيئة (24) حادثًا مقارنةً بـ(18) حادثًا في عام 2019م، وبالتَّالي فإنَّ المتوقَّع ارتفاع هذه الحوادث هذا العام 2024 نظرًا لتزايدِ أعداد الدَّاخلين والهواة والمغامرين المُهتمِّين بهذه الرِّياضات، ومشهد حوادث السُّقوط الجبلي وعمليَّات الإنقاذ الجبليَّة المُتكرِّرة الَّتي ترصدُها صفحة هيئة الدِّفاع المَدَني والإسعاف وصفحة شُرطة عُمان السُّلطانيَّة في منصَّة ( .(X

إنَّ تناولنا لهذا الموضوع، والتَّأكيد على أهميَّة التَّعامل معه بمزيدٍ من المهنيَّة والوضوح والضبطيَّة، نابع من القناعة بأنَّ الرِّياضات الجبليَّة أصبحتْ ذات قِيمة اقتصاديَّة وسياحيَّة وترويجيَّة مُضافة، وتحظى باهتمامٍ عالَمي منقطع النَّظير، وقد أوجدتْ هذه الرِّياضة العدد من المحترفين حَوْلَ العالَم الَّذين أصبح تنقُّلهم إلى البُلدان يُشكِّل قِيمة اقتصاديَّة كبيرة في تعزيز اقتصاد السِّياحة وتعظيم دَوْر السِّياحة الوافدة المُتخصِّصة، وما من شكٍّ بأنَّ ما تتميَّز به سلطنة عُمان من سلاسل جبليَّة ممتدَّة وقِمم جبليَّة عالية، ومنخفضات منحدرة وعميقة، بالإضافة إلى ما تضمُّه هذه الجبال من كهوف وأودية ومناطق سياحيَّة جميلة وغيرها، يُمثِّل ميزة تنافسيَّة لنُموِّ هذه الرِّياضة وتعزيز حضورها في سلطنة عُمان وتَبنِّي الفرص لاستقطابِ الهواة والمحترفين العالَميِّين لاكتشافِ جبال سلطنة عُمان وكهوفها ومغاراتها والحياة الفطريَّة والجبليَّة والتَّنوُّع الأحيائي والفرص المُتاحة فيها، الأمْرُ الَّذي يُسهم مع توافر الإمكانات والممكنات والظُّروف المُتاحة في وضع هذه الرِّياضة كإحدى الرِّياضات الواعدة.

على أنَّ الاهتمام بالرِّياضات الجبليَّة لم تكُنْ وليدة اليوم، بل لهَا حضورها الواسع في ثقافة الإنسان العُماني والموروث الاجتماعي، فإنَّ المسار الجبلي كان هو البديل الَّذي اعتمده العُماني في التنقُّل وتقليل المسافات واختصارها بَيْنَ الولايات والمحافظات قديمًا، وظلَّ حضور هذه الرِّياضة إلى فترة قريبة حيث زادَ مستوى الاهتمام بها نظرًا لزيادةِ التَّرويج والتَّسويق لهذه الرِّياضة من قِبل الجهات المعنيَّة وشركات القِطاع الخاصِّ السِّياحيَّة العاملة في هذا المجال، بالإضافة إلى مبادرات المواطنين والفِرق الرِّياضيَّة بالولايات، ومع وجود الخبرات والكفاءات من المتقاعدين بالمؤسَّسات العسكريَّة والأمنيَّة شكَّل فرصة نوعيَّة لنُموِّ هذه الرِّياضة وزيادة عدد الدَّاخلين فيها من القِطاعات المَدَنيَّة والقِطاع الخاصِّ بما تُتيحه من فرص تغيير الروتين وإعادة هندسة التَّجديد في حياة المتقاعد، أو توظيف الخبرة والتَّجارب السَّابقة، كما أتاحتْ مجموعات «الواتس اب» المُتخصِّصة الَّتي تضمُّ الهواة وغيرهم من المُهتمِّين برياضة المَسير الجبلي المزيد من فرص حواريَّة ولقاءات مُتكرِّرة، الأمْرُ الَّذي عزَّز من درجة الشَّغف ومستوى الاهتمام الشَّعبي بهذه الرِّياضة.

ومع ذلك تبقَى حوادث السُّقوط الجبلي لهَا تداعياتها السلبيَّة على ممارسة هذه الرِّياضة، ما يؤكِّد في الوقت نَفْسه على أهميَّة أن تنشطَ الجهود الوطنيَّة في وضع الشُّروط والضَّوابط والإجراءات الَّتي تحدُّ من هذه الحوادث، وترفع درجة السَّلامة والأمان، بما يصنعُ من هذه الرِّياضات متنفَّسًا لشغفِ الشَّباب والكبار ورغبتهم في ممارستها، فإنَّ من بَيْنَ الأمور الَّتي ينبغي استحضارها في التَّشريعات القوانين والإجراءات التَّوجيهيَّة والضَّبطيَّة في التَّعامل مع الرِّياضات الجبليَّة، تُحقِّق جملةً من الاشتراطات، ومن ذلك: اشتراط أن يكُونَ عمر الشَّخص المشارك في المَسير الجبلي بَيْنَ (25) إلى (60) عامًا، واشتراطات تتعلَّق بالفحص الطبِّي الشَّامل للرَّاغبِينَ في ممارسة هذه الرِّياضات، مِثل: خلوِّه من حالات الإغماء والصَّرع أو بعض الأمراض المُزمِنة مِثل أمراض الضَّغط والقلبِ والسكَّري؛ وأن يمتلكَ المهارات المناسِبة والخبرة الكافية في تسلُّق الجبال، والالتزام بمعايير السَّلامة والأمان ولبس خوذة الرَّأس وتخصيص لباس معتمد لهذه الرِّياضات، وتحديد أماكن مُعيَّنة واعتمادها كمسارات جبليَّة، وتوظيف المسوحات الجغرافيَّة والخرائط في تحديد أفضل هذه الجبال للتسلُّق أو ممارسة رياضة المَشي الجبليَّة فيها في ظلِّ مراعاة نسبة الخطورة والانحدار والارتفاع، وغيرها بعد عمليَّة تقييم ومراجعة وتمهيد لهذه البيئات من قِبل جهات الاختصاص؛ وتنشيط دَوْر الفِرق الرياضيَّة بالولايات وتعزيزها بالمختصِّين في هذه الرِّياضة وأصحاب الخبرة، ووضع الضَّوابط لقَبول المشتركين في هذه الرِّياضات وإلزام قادة هذه الفِرق بالعمل بها، ووضع المسؤوليَّة القانونيَّة على كُلِّ شخص يخالفُ الشُّروط والضَّوابط وإعلام أُسرته بذلك، بالإضافة إلى توفير الإسعافات الأوَّليَّة، وتقييد ممارسة هذه الرِّياضات ضِمْن متخصِّصين ومدرِّبينَ ومُرشدين من ذوي الخبرة في هذه البيئات، وتشجيع إنشاء فِرق متخصِّصة في الولايات للرِّياضات الجبليَّة، وضع التَّنبيهات بالأماكن الخطرة والانزلاقات وهشاشة الجبل واللَّوحات الإرشاديَّة في الأماكن المُخصَّصة لممارسة هذه الرِّياضات خصوصًا في الأماكن الخطرة، وتوفير خدمة وجود فريق الأمن والسَّلامة والإنقاذ بالتَّنسيق مع شُرطة عُمان السُّلطانيَّة خصوصًا في المجموعات، سواء في المَشي أو التسلُّق أو اكتشاف الكهوف أو غيرها مراعاة ممارسة هذه الرِّياضات وفق ضوابط وتجهيزات فائقة وظروف معلومة وفترات تُراعي فيها حالة الطَّقس وهبوب الرِّياح والعواصف والغبار وغيرها؛ واستخدام الأجهزة الحديثة في رحلات المَسير الجبلي مِثل كاميرات ذكيَّة في الاستشعار عن بُعد بالأخطار الموجودة، والخيارات المُتاحة للنُّزول أو الصُّعود، وأجهزة هواتف لا سلكيَّة تعمل بالأقمار الصِّناعيَّة في تحديد موقع الشَّخص يربط بأجهزة الرَّقابة في هيئة الدِّفاع المَدَني والإسعاف وطيران شُرطة عُمان السُّلطانيَّة، وتَبنِّي برنامج إلكتروني يُساعد الجهات المختصَّة في معرفة عدد الهواة والأشخاص وبياناتهم والتَّعامل معها، مع الاستفادة من برنامج (نداء) الَّذي أطلقَتْه مشكورةً هيئة الدِّفاع المَدَني والإسعاف والَّذي يُتيح للممارسين تسجيل بيانات الموقع الَّذي ستتمُّ ممارسة النَّشاط فيه وعدد الأشخاص والتَّوقيت، ويُتيح البرنامج خاصيَّة الإبلاغ بضغطةِ زرٍّ عن أيِّ حادث قد يتعرض له المغامرون، الأمْرُ الَّذي من شأنه أن يساعدَ الجهات المعنيَّة في اتِّخاذ قرارات متوازنة.. فمن جهة تعمل على تنشيط هذه الرِّياضة؛ باعتبارها إحدى الرِّياضات الواعدة، وفي الوقت نَفْسه يحدُّ من مخاطر السُّقوط الجبلي والحوادث المُميتة النَّاتجة عَنْه.

أخيرًا، يبقَى الحدُّ من حوادث السُّقوط الجبلي والانزلاق في المنحدرات المنخفضة والسَّحيقة مدخلًا لتحديثِ التَّشريعات والقوانين والأنظمة، وتعزيز جوانب الرَّقابة والمُتابعة والتَّشخيص الفعلي لمسبِّبات هذه الحوادث، وبناء مسار وطني واضح يضْمَن وجود مرجعيَّة مؤسَّسيَّة لتعزيزِ التَّكامل وبناء منظومة التَّدريب والتَّطوير والقدرات الوطنيَّة، وتوفير البرامج التَّخصُّصيَّة على يَدِ خبرات مُجتمعيَّة ومؤسَّسيَّة؛ كونها الطَّريق الَّذي يحفظ لرياضة المغامرات الجبليَّة موقعها وحضورها في ثقافة المُجتمع واقتصادات المحافظات والتَّرويج السِّياحي لسلطنة عُمان، ويُعزِّز الثِّقة والشَّغف لدَى الصِّغار والكبار والشَّباب الممارسين لهذه الرِّياضة في استمرار ممارستهم لهَا وفق ضوابط وشروط وتقنين وتشريعات، تحفظ حياة الإنسان وأمْنَه وسلامته، وترقى بشَغفه ومغامراته واهتماماته.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]