الجمعة 18 أكتوبر 2024 م - 14 ربيع الثاني 1446 هـ
أخبار عاجلة

الإعجاز الصوتي فـي القرآن الكريم «حرف اللام ودوره فـي البلاغة القرآنية» «1»

الأربعاء - 02 أكتوبر 2024 04:43 م
30

الإعجاز البلاغي كما يكون في الكلمة، وكما يكون في التركيب، يكون كذلك في الحرف بنوعيه: حرف مبني، أي: الذي تُبنَى منه الكلمة، كالميم في (محمد)، وكالراء في (رسول)، أم كان حرف معنى كالحرف (لا الناهية) في قوله تعالى:(ولا تسرفوا)، أو الحرف (على) كما في نحو:(فخرج على قومه في زينته)، أو كالسين في نحو:(فَسيَرى اللهُ عَمَلَكم ورسُوله والمؤمنون)، أو (إن) كما في نحو:(إنَّ الله عزيزٌ ذو انتقام)، ونحو حرف الجواب (إي) في قوله تعالى:(قُل إي وربّي إِنَّه لَحقٌ)، وحرف الاستفهام في قوله:(أإلهٌ مع الله).. ونحوها من حروف المعاني.

وهنا نعرض لدور حرف اللام، وصوته في الكشف عن الإعجاز البلاغي لآيات الكتاب العزيز، وتوضح جمال المعنى، وجلال دلالاته، وكمال معانيه، واتساع مراميه.

ـ النموذج الأول: نعرض هنا للإعجاز الصوتي في حرف اللام، ونرى ما فعله في سياقه، وما سكبه من بلاغة، وبيان، وجمال، وكمال في محله من الآيات القرآنية، ومواضعه في السور الكريمة، يقول الله تعالى:(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء 60 ـ 62).

في هذه الآية الكريمة يحكي القرآن الكريم ما كان من فرعون المتألِّه، المتكبر، الذي ادَّعى الألوهية، وقال:(أنا ربكم الأعلى)، (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى)، وكان يقتل كل مولود ذكر؛ لئلا يخرج من أخبروه بأنه سيهدم ملكه من هؤلاء، وكان يستحيي النساء إما للخدمة، وإما للشهوة، ولما آمن من آمن مع سيدنا موسى، وكان ما كان من أمر اللقاء الذي جمع فرعون بموسى وهارون، وآمن سحرة فرعون عندما رأوا بأم أعينهم نبوة سيدنا موسى، وتأييد الله له بذلك الثعبان الذي التقم الحبال التي خُيِّلَ للناس أن سحرة فرعون قد جعلوها ثعابين تسعة، وأوجس في نفسه خيفة موسى، وثبته الله بأن جعل عصاه لما ضربها في الأرض أخرجت أفعى مخيفا فابتلع كل تلك الأحبال، وعندها سجد سحرة فرعون لله رب العالمين:(خَرّوا سُجَّدًا وقالوا آمنَّا بِرَبِ هَارونَ وَموسى)، وقامتْ قائمة فرعون، ولم تقعد، وتوعَّدهم وتهدَّدهم، وأزبد وأرغد، وعملت إذاعاته ولم تهدأ عقيرته:(لَأُقطِّعنَّ أَيديَكُم وأَرجُلَكم مِن خِلافٍ وَلأُصَلبَّنكم فِي جِذوعِ النَّخلِ، وَلَتعلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذَابًا وَأبقَى)، وسلط أتباعه أن يقتلوهم عن بكرة أبيهم، ويُنْهُوا وجودَهم في المدينة، فخرج موسى (عليه السلام) بمن آمن معه، تبعًا لأمر الله إياه، وتنفيذا لتعليمات مولاه، وقد أمره الله أن يضرب البحر بعصاه، فانفلق، فكان كلُّ فرق كالطود العظيم، وأتباعُه قبل ضرب العصا قلقون، مضطربون، خائفون مِنْ قَتْلِ فرعونَ لهم، وتنكيلِ زبانيته بهم، وصَلْبهم في جذوع النخل، فهم لا يكاد قلبُهم يهدأ من نبضه؛ هلعًا، وخوفًا، ووجلًا، وبالفعل أدركهم فرعونُ، فأمامهم البحر، وهو واسعٌ ضَخْم، خِضَمٌّ، عَرَمْرَمٌ، ومَخُوف بتياراته الصعبة، وكيف ينجون من ويلاته؟!، ولم يخوضوه من قبلُ، وخلفهم فرعونُ وجنودُه، بجبروتهم، وغضبهم، وهم مسلحون، آتون بكل عنفوان، وصلفٍ، وجبروتٍ، وتخيَّل أنت نفسك موجودًا بين فَكَّيْ كماشة، أو بين فكَّيْ أسدٍ، أو بين كَفَّيْ الرَّحَى؛ حيث إن البحر أمامك، والعدو خلفك، ولا وقتَ للتفكير، فقال أصحابُ موسى بعد أن أتبعوهم مشرقين، وتراءى الجمعان، قالوا بكل ألوان التوكيد:(إِنَا لمُدركون)، باستعمال الجملة الاسمية من جانب، ومن جانب آخر أتَوْا بالمؤكد (إنَّ)، نون الإحاطة؛ حيث لم يفلتْ منا أحد من الموت الزؤام، وثم ختموا باللام المزحلقة من جانبٍ ثالثٍ، وجمع (مدرك)، أيْ: أن كلَّ الظروف ليست في صالحهم، وهم مُدْرَكُونَ، لا محالة، مُقَتَّلون، لا مناصَ، ولا مَفَرَّ، والعبارة القرآنية كنايةٌ عن وصولهم إلى طريقٍ مسدودٍ، في ظنهم، وطريق كلها هلاكٌ، ولا محلَّ للهرب، وكأنهم عن بكرة أبيهم، وفي نَفَسٍ واحدٍ قالوا ذلك الكلام، وتفوَّهوا بهذا القول، وتلك اللام، لام التأكيد، المسمَّاة اللامَ المزحلقةَ أَكَّدَتْ خوفَهم، ورسَّخت هلعَهم، وهَزَّتْهم هزًّا، وأزَّتْ قلوبهم أزًّا، ولكنَّ سيدَنا موسى (عليه السلام) الموصولَ بربه، والمتعلقَ بمولاه، صاحبِ القدرة، ومَنْ بيده أصولُ كلِّ قوة، كان رابط الجأش، قويَّ الإيمان، حاضرَ العقيدةِ، مُتَّقِدَ الوصالِ بالله قال:(كَلَّا إنَّ مَعَي رَبِّي سَيهدينِ)، وهنا نقف؛ لنبين ما فعلتْه اللام، وما كشفَتْ عنه، وما بثَّتْه في قلوب الهالعين، وأفئدة الوجلين، من طمأنينة، وراحة، واستقرار قلب، فمقول القول هنا هو:(كَلاَّ إنَّ مَعي رَبّي سَيهدين) أولا الكاف تطرد كلَّ الهواءِ الموجودِ في الفم، كأنها ترفض قولَهم، وتمكِّن لنقيضِهِ في قلوبهم، وتأتي اللام (في كلا) التي تخرج من جوانبِ الفم ـ كما يقول أهل التجويد ـ وأن مخرجها هو أدنى حافتي اللسان (أو إحداهما، واليمنى أيسر) مع ما يحاذيه من لَثَةِ الأسنان العليا، وصفتُه: الجهرُ، والبينيةُ، والاستفالُ، والانفتاحُ، والإذلاقُ، الانحرافُ، فهي تخرج من جوانب الفم، وهذا يعني أنه قالها بكل امتلاء القلب، وشفافية الصدر.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

 كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية