الأربعاء 15 يناير 2025 م - 15 رجب 1446 هـ
أخبار عاجلة

نحو العنصرية

الأربعاء - 04 سبتمبر 2024 04:20 م

د.أحمد مصطفى أحمد

10

رغم طريقة الإعلام في التَّعامل مع نتائج الانتخابات في ولايتَيْنِ ألمانيَّتَيْنِ باعتبارها «مفاجأة»، إلَّا أنَّ السِّياق العامَّ في الغرب وخصوصًا في دوَله التقليديَّة الأساسيَّة مِثل ألمانيا يؤشِّر على هذا التَّطوُّر منذُ فترة. المستشار الألماني أولاف شولز «قلق» من صعود اليمين المُتطرِّف على حساب ائتلافه الحاكم من يمينِ الوسطِ، كما تنقُل التَّغطيَّة الإعلاميَّة. رُبَّما يستغرب المرء «قلق» المستشار وائتلافه الحاكم الَّذي منذُ تولِّيه السُّلطة في ألمانيا وهو يدفع نَحْوَ اليمينِ المُتطرِّف واليسار الفوضوي. صحيح أنَّ هذا المنحى لم يبدأْ مع شولز وائتلافه، ورُبَّما تعُودُ جذوره إلى الثمانينيَّات مع المستشار هلموت كول، لكنَّ تطوُّرات الأوضاع في الغرب وقواه الرئيسة تعجِّل بالتَّحوُّل نَحْوَ العنصريَّة في أغْلَبِ ما تُسمَّى «الديموقراطيَّات الغربيَّة». ومع أنَّ اليمين المُتطرِّف يبدو أكثر وضوحًا في أميركا، إلَّا أنَّ جذرَه يأتي من أوروبا، من حيث جاء المُحتلُّون الاستيطانيُّون للولايات المُتَّحدة قَبل بضعة قرونٍ قليلة. إذا كان أغْلْبُ هؤلاء المهاجِرِين الأوائل إلى «العالَم الجديد» في أميركا الشَّماليَّة جاءوا من ألمانيا وفرنسا وإنجلترا إلى جانب دوَل أوروبيَّة أخرى طبعًا، إلَّا أنَّ ألمانيا تُمثِّل أهميَّة كُبرى حتَّى أنَّ الشُّعوب الجديدة وُصِفَت في بعض الأدبيَّات باسْمِ «ساكسون»، رُبَّما نسبةً لولاية ساكسونيا في ألمانيا الحاليَّة.

أهمُّ وأخطرُ ما في اليمينِ المُتطرِّف الأوروبي ليس معاداته للهجرة والمهاجرِين ولا شيوع الإسلاموفوبيا بَيْنَ عناصره، إنَّما عنصريَّته تجاه أيِّ «آخر» حتَّى لو كان من الأصْلِ العِرقي القوقازي الأبيض. هذه العنصريَّة المتزايدة لدَى اليمينِ المُتطرِّف تقابلها عنصريَّة أبشعُ لدَى اليسار المُتطرِّف أيضًا، وإن كان الأخير أقلَّ بروزًا الآن. رُبَّما يبدو مِثال التَّشابه أكثر وضوحًا في فرنسا، الَّتي صعدَ فيها اليمينُ المُتطرِّف في الجولة الأولى من انتخاباتها الأخيرة وفي الجولة الثَّانية قابلَه صعودُ اليسار لِينتهيَ الأمْرُ بجمودٍ سياسي في البلاد الَّتي لم تتشكَّلْ فيها حكومة حتَّى الآن بسبب ذلك. في الآونة الأخيرة، صعدَ اليمينُ المُتطرِّف إلى السُّلطة في إيطاليا وغيرها وتقدَّم في نيذرلاندز وكادَ يحكُم في فرنسا. مع ذلك يبقَى صعودُه اللافت في ألمانيا ذا دلالة خاصَّة. فالعالَم لم يتجاوزْ بعد فترة النَّازيَّة الَّتي أشعلَتْ حربًا عالَميَّة راح ضحيَّتها عشرات الملايين في أوروبا وغيرها. وما زالتْ آثار الصُّعود النَّازي العنصري ملموسةً فيما هو أبعدُ من أوروبا، حتَّى أنَّ الاحتلال الصهيوني في فلسطين استغلَّها كأحَد مُبرِّرات ابتزاز الدَّعم العالَمي للاستيطانِ في فلسطين وارتكاب مجازر لا تقلُّ بشاعةً عن عنصريَّة النَّازي الألماني.

تُعَدُّ ألمانيا «قائدة أوروبا» فهي أكبر اقتصادٍ في دوَل منطقة اليورو وثقلها السِّياسي في الاتِّحاد الأوروبي هو الأقوى وبعدَه فرنسا ثمَّ بقيَّة أكثر من عشرين دَولةً أوروبيَّة. وبالتَّالي فالتَّغيُّر فيها، أيًّا كان، له تبعاتُه على القارَّة كُلِّها ليس إقليميًّا فقط ولكن حتَّى علاقات أوروبا ببقيَّة العالَم. أي أنَّ صعودَ اليمينِ المُتطرِّف في بولندا والمجر أو النّمسا مثلًا ليس بمِثل صُعودِ التَّطرُّف في ألمانيا. ولا يُمكِن استبعاد «الخوف التَّاريخي» من تحوُّل ألمانيا إلى «عنصريَّة منتخبة ديموقراطيًّا» كما حدَث مع هتلر في النِّصف الأوَّل من القرن الماضي. إذا أخذنا في الاعتبار السِّياق التَّاريخي لصعودِ العنصريَّة قَبل نَحْوَ قرنٍ والآن فيُمكِن تصوُّر أنَّ هذه الموجة لن تكُونَ مِثل الفاشيَّة والنَّازيَّة، بل ستكُونُ مختلفةً؛ أي رُبَّما أوسع نطاقًا وأكثر حدَّة. وبغَضِّ النَّظر أدَّى التَّوَجُّه العنصري الجديد إلى حربٍ عالَميَّة أم لا فإنَّ التَّأثيرَ لن يقتصرَ على عدَّة دوَل ولا حتَّى قارَّة مِثل أوروبا. فالأميركان والأوروبيُّون تتزايد عنصريَّتهم ليس تجاه الإفريقيِّين فحسب، وإنَّما تجاه الآسيويِّين أيضًا واللاتينيِّين من أميركا الجنوبيَّة. كما أنَّ العنصريَّةَ لم تَعُدْ مركَّزةً فقط تجاه دِين مُعيَّن، كالإسلاموفوبيا، وإنَّما تطول كُلَّ الأديان حتَّى بما في ذلك اليهود الَّذين يظنُّ كثيرون أنَّ الغرب يُمالِئهم بسببِ الدَّعم القويِّ للاحتلال العنصري في فلسطين.

سنقرأُ ونسمعُ كثيرًا في الفترةِ القادمة عن المُقدِّمات التَّفسيريَّة لصعودِ ظاهرة العنصريَّة، سواء في ألمانيا أو غيرها من الدوَل الأوروبيَّة والغربيَّة عمومًا. وتتعدَّد الأسباب ما بَيْنَ اقتصاديَّة واجتماعيَّة إلى نهاية عصر الأيديولوجيَّات والفراغ الفِكري والثَّقافي العالَمي الَّذي مكَّن الأفكار المُتطرِّفة من الاختمار. وجريًا على بعض طريقة التَّفكير الغربي قد نجدُ تبريراتٍ من أنَّ صعودَ اليمينِ المُتطرِّف والعنصريَّة في المُجتمعات الديموقراطيَّة الغربيَّة رُبَّما كان «ردَّ فعل» على تيَّارات التَّشدُّد الإسلامي والتَّطرُّف الصهيوني (اليهودي والمسيحي). وأتصوَّر أنَّ التَّحليلات من النَّوْع الأخير ستلقَى رواجًا أكبر، خصوصًا وأنَّه منذُ نهايةِ القرن الماضي هناك أدلَّة قويَّة على أنَّ القرن الحالي، الحادي والعشرين، سيكُونُ «قرنَ الدِّين» ـ أي دِين، ليس بالضرورة الأديان السَّماويَّة كما نعرفُها، وكذلك أيضًا أفكار التَّعصُّب غير الدِّيني. من التَّعسُّف طبعًا أيّ جدلٍ افتراضي مع ما لم يحدُثْ بعد، لكنَّ شواهدَ التَّاريخ وحكمة التَّجارب السَّابقة في حياة البشريَّة تجعل المرء، ومن الآن، يخلُصُ مبدئيًّا إلى أنَّ كُلَّ التَّفسيرات والتَّبريرات لن تلمسَ جذر الصُّعود العنصري وهو الإرث الثَّقافي الغربي منذُ وحشيَّةِ حتَّى ما قَبل العصور الوسطى وقرون الظَّلام الأوروبيَّة.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري