يحمل ذات العنوان أعلاه عنوان مؤلَّف لي صدَرَ في العام 2020 عن مكتبة بيروت، أُحاول في هذا المقال إعادة تسليط الضَّوء على فكرة أنَّ الإرهاب والعُنف والتطرُّف لا يحتاج إلى قيادة أو تنظيم أو جهة تقوم بإدارة عمليَّاته أو تمويله ودعمِه في مختلف أنحاء العالَم.
فبالرّغم من أنَّ أغْلبَ الحركات الجهاديَّة قد تأسَّست تاريخيًّا على خِيار تنظيمي هيكلي أساسُه السِّريَّة وبنية القيادة الهرميَّة، وبتراتبيَّة هيكليَّة تتفرَّع مِنْها المناصب والألقاب، كما تتوزَّع المسؤوليَّات إلى أدْنَى شبكات التَّجنيد والدَّعوة. إلَّا أنَّ ظاهرة الإرهاب الفردي تُشير في الغالب إلى عُنفٍ وتطرُّف يرتكبه شخص يتصرَّف بمفرده، لا ينتمي إلى أيَّة مجموعة أو شبكة إرهابيَّة منظَّمة، ويعمل بِدُونِ نفوذٍ مباشر لقائد أو هيراركيَّة تنظيميَّة، ويطوِّر تكتيكاته من دُونِ توجيه أو قيادة منظَّمة.
يأخذ هذا النَّوْع من الإرهاب أحَد ثلاثة أشكال، الأوَّل هو الخلايا الصَّغيرة، والشَّكل الثَّاني هو الإرهابي المُلهِم أو الذِّئب المنفرد، والشَّكل الثَّالث هو الأرملة السَّوداء، وقدِ انتشرت هذه الظَّاهرة في حقبة العولمة المعاصرة؛ لأنَّه باتَ من المعروف والمؤكَّد أنَّ تنظيم القاعدة ومنذُ عام 2011م؛ ثمَّ تنظيم داعش مستخدمًا سيرورة العولمة وآليَّاتها التكنولوجيَّة قد حفَّز ودعا إلى حربٍ مفتوحة على كافَّة الأعداء دُونَ انتظارِ التَّوجِيه أو الأوامر من القيادة، حتَّى وإن لم يطلقْ على العمليَّات الَّتي نُسبت له أو نسَبَها لِنَفْسِه اِسْمَ الذِّئب المنفرد.
هذا التحوُّل في استراتيجيَّات التَّنظيمات الإرهابيَّة هو نتيجة طبيعيَّة لعمليَّات التَّضييق والمكافحة الدفاعيَّة أو الوقائيَّة الَّتي تقوم بها الأجهزة الأمنيَّة، حيث «طال التَّغيير والتطوُّر في استراتيجيَّات التَّنظيمات الإرهابيَّة جلّ الأفكار والأدوات والأساليب فمِن الكرِّ والفرِّ إلى إقامة الدَّولة ومن العمليَّات الجماعيَّة إلى ما يطلق عَلَيْه بعمليَّات الذِّئاب المنفردة كما لم تَعُدْ تلك التَّنظيمات تختار أهدافها وضحاياها بشكلٍ عشوائي، بل يتمُّ انتقاء تلك الأهداف عَبْرَ سلسلة دقيقة من الإجراءات الهادفة إلى الحصول على أفضل النَّتائج وأكثرها تأثيرًا على مختلف المستويات الشَّعبيَّة مِنْها والرَّسميَّة»(1 )
وتُعَدُّ الذِّئاب المنفردة ـ بناءَ على ما سبَق ـ من الأشكال الإرهابيَّة العشوائيَّة إلى حدٍّ بعيد؛ لكونها لا تنتمي إلى جهة أو تنظيم إرهابي معيَّن، كما أنَّها لا تَعُودُ في أنشطتها وأعمالها إلى قيادة تنظيميَّة أو توجيهيَّة أو تدريبيَّة منتمية إلى تنظيم إرهابي مُحدَّد، ولكن ذلك بالطَّبع لا يعني أنَّها لا تعُودُ بأفكارها وتوَجُّهاتها إلى انتماء إرهابي أيديولوجي أو ثقافي أو حتَّى أنَّها تتبنَّى فكر تنظيم معيَّن كتنظيمِ القاعدة أو داعش أو غير ذلك من التَّنظيمات، لذا يُمكِن القول إنَّ أولئك الأفراد في نهاية المطاف من المتعاطفِين أو المؤيِّدِين أو المتأثرِين بالتَّنظيمات الإرهابيَّة.
تؤكِّد العديد من الدِّراسات أنَّ خطر الإرهاب بلا قيادة والَّذي تواجِهه العديد من دوَل العالَم اليوم، قد يكُونُ من الصَّعب تحقيق الانتصار الكامل عَلَيْه في هذه الدوَل أو الإعلان عن أنَّ دَولةً ما أصبحت خاليةً من خطر الإرهاب بنسبة (100%). وذلك لعدَّة أسبابٍ، مِنْها على سبيل المثال لا الحصر، أنَّ هذا النَّمط من الإرهاب من الصَّعب التنبُّؤ به، أو التنبُّؤ بالهجوم التَّالي، ولا تتكشف أبعاده إلَّا بوقوع الفعل الإرهابي، وأنَّ تجنيد الأفراد الَّذين يقرِّرون ممارسة هذا النَّمط من الإرهاب، لا تتمُّ بشكلٍ منتظِم، سواء بصورةٍ فرديَّة أو من خلال مجموعات صغيرة العدد، هُمْ مُجنَّدون بصورةٍ تلقائيَّة، لأسبابٍ فكريَّة أو أيديولوجيَّة، وهو ما يُمثِّل محفِّزًا لممارستِهم الفعل الإرهابي هو تعرُّضهم بصورةٍ مستمرَّة لموادَّ تسهِّل عَلَيْهم التَّخطيط للعمل الإرهابي، وعادةً ما يحدُث ذلك من خلال مواقع مختلفة على شبكة الإنترنت.
بناءً على ذلك فإنَّ الجهادي الَّذي يعمل وفق تكتيك الذِّئب المنفرد هو: الشَّخص الجهادي الَّذي يُخطِّط وينفِّذ أعمال العُنف وحيدًا خارج أيِّ هيكل قيادة وبِدُونِ مساعدةٍ ماديَّة من أيِّ مجموعة. صحيحٌ أنَّه قد يتأثَّر أو يستلهم أيديولوجيَّة ومعتقدات مجموعة خارجيَّة، وقد يتصرَّف بما يصبُّ في مصلحة هذه المجموعة، لكنَّ الفرديَّة في التَّخطيط والتَّنفيذ تبقى هي السِّمة المميّزة لأدائه.
على ضوء ما سبَق، أجدُ أنَّ خطر الذِّئاب المنفردة أو العمليَّات الَّتي تعتمد على هذه الاستراتيجيَّة أخطرُ بكثيرٍ من تهديدات التَّنظيمات الإرهابيَّة المباشرة. وإن كان من توصيةٍ في هذا السِّياق فهي ضرورة العمل الأمني على دراسة هذا النَّوْع من العمليَّات الإرهابيَّة. فبتصوُّري أنَّ الإرهاب القادم سيعتمد بشكلٍ كبير على هذا النَّوْع من العمليَّات وباستخدام الذَّكاء الاصطناعي والطَّائرات المُسيَّرة والمُتفجرات الَّتي تُصنَع في المنازل.
ملاحظة: بعض ما ورد في المقال أعلاه ومن باب الأمانة العلميَّة قد يكُونُ مقتبسًا من مصادر خارجيَّة، لذا وجَبَ التَّنويه إلى أهميَّة العودة إلى المصدر الأصلي للمقال، وهو كتابي «الجيل الخامس للإرهاب» لمعرفة مصادر بعض الاقتباسات.
مراجع
1 ـ - د. محمد بن سعيد الفطيسي، الأهداف السهلة والعشوائيَّة المنظَّمة (دراسة في الاتجاهات الحديثة لاستراتيجيَّات التَّنظيمات الإرهابيَّة في اختيار أهدافها النَّوعيَّة لعمليَّاتها المستقبليَّة) مجلَّة الدِّراسات الاستراتيجيَّة(مجلة محكمة) المركز الديموقراطي العربي للدِّراسات الاستراتيجيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، ألمانيا/ برلين، ع(14) مارس 2022، ص 84
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
MSHD999 @