*الإيجابية حالةٌ في النفس تجعل صاحبها مهمومًا بأمر ما، ويرى أنه مسؤول عنه تجاه الآخرين، ولا يألو جهدًا في العمل له والسعي من أجله. والإيجابية تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء، والشخص الإيجابي: هو الفرد، الحي، المتحرك، المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه.
وفي مقابلها السلبية: والتي تحمل معاني التقوقع، والانزواء، والبلادة، والانغلاق، والكسل. والشخص السلبي: هو الفرد البليد، الذي يدور حول نفسه، لا تتجاوز اهتماماته أرنبة أنفه بل ينظر تحت قدميه، ولا يمد يده إلى الآخرين، ولا يخطو إلى الأمام .والمجتمع السلبي الذي يعيش فيه كل فرد لنفسه على حساب الآخرين مجتمع زائل لا محالة، كما أن المجتمع الإيجابي مجتمع راقٍ عالٍ لا شك.
* الفرق بين السلبي والإيجابي
إنه الفرق بين الليل والنهار .. الجماد والكائن الحي .. الفرق بين الوجود والعدم. والدليل على هذا قوله تعالى:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل ـ 76)، لقد سمّى الله السلبي في هذه الآية (كَلٌّ) والإيجابي بـ(يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) .. (كَلٌّ) أصعب من سلبي، لأن سلبي معناها غير فعال أما كلّ فمعناها الثقيل الكسول وقبل هذا فهو (أَبْكَم) لا يتكلم ولا يرتفع له صوت.
وهذا عبء على المجتمع، لأن النظرة التشاؤمية هي الغالبة عليها في كافة تصرفاته، وهذه الشخصية ضعيفة الفاعلية في كافة مجالات الحياة، ولا يرى للنجاح معنى، ولا يؤمن بمسيرة ألف ميل تبدأ بخطوة، بل ليس عنده همة الخطوة الأولى، ولهذا لا يتقدم ولا يحرك ساكناً وإن فعل في مرة يتوقف مئات المرات، وهذه الشخصية مطعمة بالحجج الواهية والأعذار الخادعة بشكل مقصود، وهو دائم الشكوى والاعتراض والعتاب والنقد الهدام، وأما الآخر فإنه (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) فهو هنا الشخصية المنتجة في كافة مجالات الحياة حسب القدرة والإمكانية، المنفتحة على الحياة ومع الناس حسب نوع العلاقة، ويمتلك النظرة الثاقبة.. ويتحرك ببصيرة (بِالْعَدْلِ) فهو يوازن بين الحقوق والواجبات (أي ما له وما عليه) مع الهمة العالية والتحرك الذاتي، والتفكير دائما لتطوير الإيجابيات وإزالة السلبيات .. هل من المعقول أن يتساوى هذا وذاك؟ لا يستوون.
* أهمية الإيجابية
إن السلبية هي أخطر آفة يصاب بها فرد أو مجتمع، بينما الإيجابية هي أهم وسيلة لنهضة أي أمة، فمن الحقائق المسلِّم بها أن نهضة الأمم تقوم على أفراد إيجابيين مميزين بالأفكار الطموحة والإرادة الكبيرة، كما أنها نجاة من هلاك الأمم والشعوب قال تعالى:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود ـ 117)، ولم يقل صالحون إنما قال مصلحون، وهناك فارق بين صالح ومصلح فالصالح صلاحه بينه وبين ربه، أما المصلح فإنه يقوم بإصلاح نفسه ودعوة غيره.
فالمسلم الإيجابي عندما تعرض له مشكلة يفكر في الحل فهو يرى أن كل مشكلة لها حل والسلبي يفكر في أن المشكلة لا حل لها، بل يرى مشكلة في كل حل.
والمسلم الإيجابي لا تنضب أفكاره والسلبي لا تنضب أعذاره كذلك المسلم الإيجابي يرى في العمل والجد أملا والسلبي يرى في العمل ألماً، والمسلم الإيجابي يصنع الأحداث والسلبي تصنعه الأحداث، والمسلم الإيجابي ينظر للمستقبل والسلبي يخاف المستقبل، كما ان المسلم الإيجابي يزيد في هذه الدنيا أما السلبي فهو زائد عليها.
* إيجابية الرسول في تطلعه للمستقبل
لما اشتد الأذى على رسول الله بعد وفاة أبي طالب وخديجة ـ رضي الله عنها ـ خرج إلى الطائف ليبحث عن أرض جديدة يدعو فيها إلى دين الإسلام .. فهو لا يعترف بالمستحيل أو بالفشل .. فدعا قبائل ثقيف إلى الإسلام فلم يجد منهم إلا العناد والسخرية والأذى ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه فقرر الرجوع إلى مكة. قال: انطلقت ـ يعني من الطائف ـ وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب ـ ميقات أهل نجد ـ فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال:(إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك وقد أرسل لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال:(قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ـ جبلان بمكة، فقال رسول الله: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) (متفق عليه).
وقد وقع الأمر، كما تمناه النبي وخرج من صلب فرعون الأمة أبي جهل عكرمة رضى الله عنه، وخرج من صلب الوليد بن المغيرة المبشر بالنار في سورة المدثر سيف الله المسلول خالد بن الوليد.
وهكذا المسلم يرى الأمل دائماً غير منقطع وينظر إلى الواقع وإن اشتد عليه بايجابية وتفاؤل، وفي الحديث:(من قال هلك الناس فهو أهلكهم) (رواه مسلم عن أبي هريرة، فهو أهلكهم أي أشدهم هلاكاً).
في هذا الحديث يبين (صلى الله عليه وسلم) عظم من قال في الناس أنهم هلكى، لأن في ذلك حكم على عموم الناس بالهلاك وهو أمر غيبي لا يستطيع أحد الاطلاع عليه إلا بالوحي، والوحي قد انقطع من السماء. فكان جزاؤه أن يخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) عن القائل بذلك أنه أهلك الناس وأفسدهم، وهذا على رواية الرفع (بضم الكاف من أهلكهم).
أما على رواية النصب (بفتح الكاف من أهلكهم) فمعناها أنه أهلك الناس بكلامه ذلك وقنطهم من رحمة الله تعالى. قال الحافظ ابن عبد البر:(هذا الحديث معناه لا أعلم خلافاً فيه بين أهل العلم أن الرجل يقول ذلك القول احتقارًا للناس وازدراء بهم وإعجابًا بنفسه).
وقال الخطابي: معنى هذا الكلام أن لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساوئهم ويقول قد فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك من الكلام، يقول (صلى اللّه عليه وسلم):(إذا فعل الرجل ذلك فهو أهلكهم) وأسوأهم حالاً مما يلحقه من الإثم في عيبهم والازراء بهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه فيرى أن له فضلاً عليهم وأنه خير منهم فيهلك، فانظروا إلى هذا القول فقط كيف يؤدي بالمرء إلى الهلاك والخسران، وهو مجرد قول لا مساس فيه بأموال الناس ودمائهم وأعراضهم، وكل هذا لأن قائل هذا القول نظرته للمجتمع سوداوي، لا أمل فيها.
يروى أن مسلمة بن عبد الملك كان في جملة من الجند يحاصرون إحدى قلاع الروم، وكانت محصنة والدخول إليها صعباً إلا من نقب فيها تخرج منه أوساخ المدينة، فوقف مسلمة ينادي في الجند:(من يدخل النقب ويزيح الصخرة التي تحبس الباب ويبكر حتى ندخل، فقام رجل قد غطى وجهه بثوبه وقال:أنا يا أمير الجند، ودخل النقب وفتح الباب ودخل الجند القلعة فاتحين. وبعدها وقف مسلمة بين الجند ينادي على صاحب النقب حتى يكرمه على ما فعل، وكان يردد: من الذي فتح لنا الباب؟ فما يجيبه أحد! فقال:أقسمت على صاحب النقب أن يأتيني في أي ساعة من ليل أو نهار، فطُرق باب مسلمة طارق ليلاً ، فيلقاه مسلمة مستبشراُ: أنت صاحب النقب؟ فقال الطارق: هو يشترط ثلاثة شروط حتى تراه، قال مسلمة:وما هي؟ قال: ألا ترفع اسمه لدى الخليفة ولا تأمر له بجائزة ولا تنظر له بعين من التمييز"، قال مسلمة: افعل له ذلك، فقال الطارق: أنا صاحب النقب، وانصرف وترك جيش مسلمة ذاهبًا إلى سد الثغور في أماكن أخرى) (ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق 7 / 273)، ويذكر أن مسلمة كان يدعو بعدها قائلاً:(اللهم احشرني مع صاحب النقب).

أحمد محمد خشبه
إمام وخطيب جامع ذو النورين بالغبرة الشمالية
[email protected]