صورها محفوظ بقلمهعرض ـ حسام محمود:رواية حديث الصباح والمساء رواية عجيبة لكنها واقعية تحكى مضمار الماضي والحاضر وتطلعات وبذور المستقبل للأجيال والبشرية فأصل الموضوع وقصته هو بداية كل شيء بالمولد ونهايته الواحدة وهو الموت وإن اختلفت الأشكال والصور.إذ أنك إذا أبصرت نور الحياة فتبكي وأنت طفل بينما يفرح الناس من حولك عند الميلاد.وإذا ودعت الدنيا في هدوء وخرجت الروح من الجسد في أناة فيبكون هم هذه المرة بينما تصبح أنت في الملكوت الأعلى.وهكذا دوما دائرة مفرغة للمولد والحياة والموت تسير فيها البشرية حتى يأذن الله بالوقوف ويكمل من بعد من يتوفاهم الله أجيال جديدة للطريق دون توقف.رواية الأجيالتلك القاعدة البسيطة كانت الخيط الرفيع الذي غزل منه محفوظ روايته في حسن وإتقان شديدين في صفحات قليلة سطرت مصائر كثيرين وكل منهم بطل حكايته الخاصة التي اختلف أبطال الحكاية لها لكن المصائر واحدة.فذلك تزوج وذاك توفي وآخر أنجب قرة عينه وأخرى سقطت في شرك الحب لم تبرحه وهكذا تقلبات الحياة بين مولد وزواج، وحب وطلاق، وترحال ووفاة وموت.لقد رتب نجيب محفوظ روايته حسب تقسيم الشخصيات ترتيبًا جيدا أبجديًا وتدريجيا بدأ الموضوع يزداد تعقيدا.فحين يذكر مثلا اسم عامر عمرو عزيز يزيد المصري فلابد لك من أن ترجع لكل اسم من هؤلاء فتعرف من أبوه ومن جده ومن كان قبل جدهما إنها شجرة العائلات.وبحاجة كقارئ أن تعرف شجرة العائلة لتجاري الكاتب الموهوب الفذ فيما يقوله وعندما تتوقف عن القراءة تتذكر بعض حلقات الرواية لتندهش من تقلبات الدهر على الناس وكل شيء كان مثاليا إلى حد كبير جدًا لكن يطرأ عليه متغيرات الزمن لتطمس معالمه.فيكبر ويشب الصغار ويشيخ الشباب وتلد النساء حتى يتوفى الجميع المنية فيظهر جيل جديد يحمل راية أخرى في الحياة بدوائر تتكرر.ومعالجة الرواية وتحويلها لنص مسلسل شهير لم يخل بالمضمون خاصة ما يتعلق بتكثيف الأحداث وتتابعها ونادرا ما يحدث هذا في المعالجات الدرامية.ومع مرور القارئ على الصفحات والشخصيات يلمس تجارب مضيئة ربما يصعب تكرارها لبصماتها على تاريخ حياة المحيطين بها بل وتميزها عن الجميع بقصص غير مألوفة ويصبح القارئ أكثر شغفا بأبطال القصة وأكثر تعلقا بالفكرة المجردة لهذه الرواية العبقرية.دوران الحياةمن أبرز الشخصيات كان داوود باشا يزيد المصري الذي أُخذ غصبًا منذ صغره من قبل رجال محمد علي الحاكم المصري آنذاك ليتم تعليمه وتربيته تحت إشراف مباشر منه حتى اشتد عوده وبعثوه إلى فرنسا ليتعلم الطب وعاد إلى مصر ثانية وحينها فقط سمحوا له بالعودة إلى أهله بعد فراق طويل.ولم يكن بيده الرحيل ولا الرجوع فكان قدره فحسب الذي قاده للفوز بالباشاوية وزواجه بهانم من ذوات الحسب والنسب فلم يأبه لذلك كل بل كان شديد الحنين إلى الحارة حيث ولد وحيث مات أحب الناس إليه ولذلك حين أحس بالضياع وسط الحياة وصخبها ترك كل شيء رجع إلى الحارة حيث أصله ومستقره.كما برع محفوظ في تجسيد شخصية السيد عطا المراكيبي وحرمه هدى هانم حيث حلم بالمستحيل لكنه حققه رغم كونه مركيبى يعمل صانع أحذية فقير فقد طمح في الغنى والجمال والحسب والنسب بزواج من هدى هانم حيث وجد فيها ما ينقصه ووجدت فيه ما كانت تبحث عنه رغم فقره ورغم أهلها أصحاب الأنوف العالية حيث أكملا طريق الحياة سويا ورزقهما الله بذرية تشهد على صدق الود وحسن البر بينهما إلى يوم الدين.كلاهما كان مقدرا أن يلتقي نصفه الآخر وإن تأخر هذا اللقاء وبعدت به المسافات إلا أنه كان قضاء لا بد من حدوثه.لقد عاشت هذه الأسر وتناسلت وكافحت بقلم نجيب محفوظ الفنان المبدع الذي تحدث عنها وكأنه عاش بين هؤلاء ومكث بين ظهورهم أمدا طويلا.ويسرد محفوظ حديثا عن الشباب وأحلام الزواج والحياة حتى في الزمن العتيق الصعب التواصل فيه بين الأحبة لكن القلوب تصل سهامها للقلوب لتجمع شتات المحبين على الزواج وإخراج الذرية.وما صاحب ذلك من مفارقات بين الحب من أول نظرة وقصص الغرام وحب الشخصية والحب رغم فراق الموت بين الحبيب وحبيبته إلا أن الوفاء يجمع روحهما.كما يبين كاتب نوبل أنه رغم تباين المستويات الاجتماعية والمادية إلا أن الجميع يدرك هدفه الأسمى من الحياة وهو اللحاق بقطار العمر لتسخر الإمكانيات للزواج والإنجاب ورحلة كفاح العمر لتربية الأولاد كسمة للحياة ينبغي الحفاظ عليها وعدم اندثارها فهي رسالة أجيال تستلم الراية لتسلمها لآخرين صغارا وشبابا يصلوا للهرم ويكونون قد ادخروا للزمن أبناءهم وبناتهم ليكتب عليهم إكمال سفينة الرحلة التي لا تنقطع سوى بالموت.