يأتي هذ الحق استكمالا لحق الخصوصية والحياة الخاصة الذي تم التطرّق إليه في الحلقة الثامنة. حيث إن المسكن له حرمة وحقوق رعتها الشريعة الإسلامية ووضعت لمن يعتدي عليها الكثير والكبير من العقوبات، وتأيدّ ذلك باشتمال الأنظمة والقوانين الدولية والعمانية عليها. ونحن إذا نظرنا في نصوص الشريعة لوجدناها مهتمة بهذا الحق أيّما اهتمام، يقول الله تعالى في معرض الاستئذان قبل دخول بيوت الآخرين:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النور/27)، ويقول كذلك في آداب دخول المساكن: فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً (النور/61)، فاقتران الخيريّة بالالتزام في تطبيق حق حرمة المساكن دليل على أهمية هذا المطلب الشرعي النبيل؛ إذ في عدم الالتزام به كبير أذى لأرباب البيوت، وعظيم أثر لحرمات الأعراض. كما إن التشريع العماني - وضمن مواد قوانينه المختلفة - راعى وأيدّ حق حرمة المساكن، ووضع لمن يعتدي عليها عقوبات صارمة، ويتجلى ذلك الاهتمام في أكثر من موضع؛ حيث نصت المادة (27) من النظام الأساسي للدولة على ذلك بالقول: «للمساكن حرمة، فلا يجوز دخولها بغير إذن أهلها، إلا في الأحوال التي يعينهـا القانون وبالكيفيـة المنصوص عليها فيه». فحرمة المساكن ليس على إطلاقها في كل وقت؛ إذ إن الاستثناء الوارد في الشطر الثاني من المادة السابقة رفع إطلاق هذا الحق بتقييده في حالات معينة تقرّها القوانين المنظمة والمكملة للنظام الأساسي للدولة، والتي من ضمنها قانون الإجراءات الجزائية الذي نظّم طرق تفتيش المنازل وتجاوز هذا الحق بموجب القانون، وذلك من خلال المواد (36) و (76) و (79) منه، حيث بينت العديد من الأحكام كعدم جواز دخول أي منزل إلا في حالة طلب المساعدة من الداخل أو في حالات الضرورة. وجاءت المادة (80) من القانون ذاته موضحة أحوال جواز تفتيش المنازل وشروطه بالقول: «لا يجوز تفتيش المساكن إلا بإذن كتابي مسبب من الادعاء العام بناء على اتهام موجه إلى شخص يقيم في المسكن المراد تفتيشه بارتكاب جناية أو جنحة أو باشتراكه في ارتكابها، أو إذا وجدت قرائن تدل على أنه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة، ما لم تكن الجريمة متلبسا بها. ويكون التفتيش وضبط الأشياء والأوراق على النحو المبين بهذا القانون، ويتم البحث عن الأشياء والأوراق المطلوب ضبطها في المسكن وملحقاته ومحتوياته....». كما رعت المادتان (84) و (86) من القانون نفسه احترام الشخصية الاعتبارية للمتهم وأقاربه والمسؤول عنه في قبيلته وقريته من حيث إجراء التفتيش بحضورهم وعلمهم جميعا، وأن تراعى الأعراف والتقاليد وتحترم القيم والأخلاق العرفية عند وجود النساء في المحل المراد تفتيشه؛ حيث يُمكَّنَ من مغادرة المسكن، ويُمنحنَ التسهيلات اللازمة لذلك بشرط عدم الإضرار بمصلحة التفتيش. كل ذلك يجب أن يراعيه مأمور الضبط القضائي أو من يُكّلف بمسؤولية التفتيش من قبل جهات الاختصاص. فكل تلك الإجراءات والضوابط إنما وضعت صيانة من قبل القانون العماني لهذا الحق وحفظا لقدسيته، وتقريرا لأهميته المنشودة من قبل الواقع الإنساني المعتدل الذي لا ينال من حقوق الأفراد، وبالمقابل لا وقوف في وجه تحقيق العدالة وتطبيق القوانين التي تحفظ النظام والأمن العام للمجتمع. وعليه فإن أي تعدّ أو تقصير في الالتزام بمواد القانون السابقة التي ضبطت التعامل مع حق حرمة المسكن يعدّ جريمة يحاسب عليها القانون ويتبع فيها صاحبها، وقد حددت المادة (262) وما بعدها من قانون الجزاء العماني جزاء من يعتدي على حرمة المساكن بالقول: «يعاقب بالسجن من شهر إلى سنتين وبالغرامة من عشر ريالات إلى مئة ريال كل من دخل بيتاً مسكوناً أو مكاناً آخر مُعدّ للسكن الشخصي بغير رضا من له الحق في منعه من الدخول، أو دخل إلى هذا المكان خلسة أو بالاحتيال. وتطبق العقوبة نفسها على من يبقى في الأماكن المذكورة رغم أمره بالخروج منها ممن له الحق في منعه، أو من يبقى فيها خلسة أو احتيالاً. وتتوقف الملاحقة على شكوى الفريق المتضرر». كما جاءت القوانين الدولية هي الأخرى راعية لهذا الحق. ومن ذلك ما ورد في نصوص عدة مواد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية القاضية بحرمة المسكن. ويتصدر هذه القوانين: المادة (12) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ حيث نصت على إنه: «لا يُعرّضُ أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته....». ومن القوانين الإقليمية والدولية التي أقرت وأثبت هذا الحق كذلك الميثاق العربي في المادة (6)، والميثاق الأفريقي في المادة (12)، ونصت أغلب دساتير دول مجلس التعاون الخليجي على هذا الحق من خلال مادتين، الأولى تعالج حرمة المسكن بصورة خاصة، والثانية تعالج المراسلات البريدية والبرقية والمخاطبات الهاتفية، ومنها: المادة (36) من دستور دولة الإمارات العربية المتحدة، والمادة (37) من دستور دولة قطر، والمادة (38) من دستور دولة الكويت، والمادة (37) من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية. وإلى لقاء آخر يجمعنا - بمشيئته تعالى - أستودعكم الله في الحل والترحال...

المحكمة العليا
[email protected]