في النسخ وأقسامه (3)علي بن سالم الرواحيعزيزي القاريء: ينقسم الناسخ والمنسوخ باعتبار حكمهما قبل وبعد النسخ إلى: أن يكون المنسوخ فرضاً نُسِخ إلى التحريم، بينما يكون حكم الناسخ فرضاً: مثاله الآية المنسوخة:(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)(النساء ـ 15), ونسختها آية الجلد لغير المحصن:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)(النور) , فحكم حبس الزانية واجب قبل النسخ محرم بعده أم حكم الجلد فواجب بعد نزول آيته.ـ أن يكون المنسوخ فرضاً نُسِخ إلى التخيير بينما يكون الناسخ فرضاً: كنسخ صوم رمضان لصوم يوم عاشوراء فكليهما فرضين في وقتيهما لكننا مخيرون في صوم عاشوراء مع أنه متحتم علينا صوم رمضان.ـ أن يكون الناسخُ أمراً بترك المنسوخ الواجب الذي نُسِخ إلى التخيير: كنسخ تحريم الأكل والحماع بعد النوم في ليل رمضان بإباحة ذلك إذا لم يطلع الفجر, لكن نحن مخيرون بين فعل الأكل والجماع أو تركهما.ـ أن يكون المنسوخ ندباً قبل النسخ بينما يكون الناسخ فرضاً بعده: مثاله: نسخ حكم الأذن بالقتال على جهة الاستحباب في قوله سبحانه:(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج ـ 39), بقوله سبحانه:(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)(البقرة ـ 191), وقيل: هذا لا يُعدُّ نسخاً بل تأكيداً.ولكي نتعرف على الناسخ والمنسوخ في القرآن أو في السنة, هناك طرق ترينا ذلك:ـ أن يصرَّح في النص بالنسخ: مثاله في آيتي المصابرة المتناسختين قوله سبحانه:(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)(الأنفال ـ 66), ومثاله من السنة حديث ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:(كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلاَ فَزُورُوهَا وَلاَ تَقُولُوا هُجْرًا)، لاَ تَدْعُوا بِالْوَيْلِ وَالْعَوِيلِ وَبِمَا يُسْخِطُ الرَّبَّ.ونحو ذلك تصريح الصحابي به إذ إنه معاصر لوقائع وتنزلات الوحي ويعلم تواريخها ومثاله حديث جَابِرٍ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: (كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ).ـ وجود قرينة في النص تدل عليه: كما ذُكِر في حكم حبس الزواني في البيوت حتى الموت قوله سبحانه:(أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا)(النساء ـ 15) فلما نُسِخ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ), فالقرينة هنا مقالية.بالتأريخ وهو معرفة المتأخر من المتقدم وهو متعلق بالنزول لا بالترتيب الآياتي, وذلك مع تعذر الجمع بين المتقدم والمتأخر, فمن ذلك إضافة الناسخ إلى وقتٍ يُعلَم منه إنه قبل وقت المنسوخ كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِأَرْضِ جُهَيْنَةَ، قَالَ: وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ، قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ:(أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلَا عَصَبٍ)، فوقّت هذا الحكم بشهر أو بشهرين قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) فمن ثبت عنده هذا الحديث قال بنسخ الانتفاع بجلد ميتة كما جاء في عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنْ يُنْتَفَعَ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ لأن هذا الحديث جاء متقدماً, ومنه أن يُعرَف أسبقية الصحابي الراوي الأول على الصحابي الراوي الآخر في الصحبة فيكون حديث الأول منسوخاً والثاني ناسخاً عند تعارضهما, مثال ذلك: حديث قَيْسَ بْنَ طَلْقٍ الْحَنَفِيَّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، سُئِلَ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ، فَقَالَ:(لَيْسَ فِيهِ وُضُوءٌ، إِنَّمَا هُوَ مِنْكَ), وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّهُ قَالَ:(إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ) فصحبة طلق بن قيس كانت قبل صحبة ابن عباس لذا فحديث ابن عباس يعتبر ناسخاً لحديث طلق بن قيس.ـ معرفة المكي من المدني: ولكلٍ من المكي والمدني أمارات يعرَف بها ويتميز احدهما عن الآخر بها, فمثلاً الآيات المكية تشير غالباً إلى الصفح والإعراض عن الكافرين بشتى مللهم بينما الآيات المدنية تشير إلى الجهاد وبما أن المكي هو ما نزل قبل الهجرة الشريفة والمدني ما نزل بعدها فإن الجهاد نسخ آيات الصفح والإعراض.ـ الإجماع وهو معصوم والإجماع ناشيء عن اجماع عام لآراء علماء الأمة ومثاله: قتل شارب الخمر للمرة الرابعة عُرِف نسخُه بالإجماع.وللنسخ حكم جليلة وفوائد مستديمة بدوام البشرية والعمل به فمنها:ـ حكمة النسخ من الأخف إلى الأثقل هو اختبار العبد في صدق إيمانه ومدى امتثاله لربه العظيم ومضاعفة الأجر وهذا هو جهة الخيرية في الناسخ على المنسوخ, والمثال عليه: نسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان.ـ حكمة النسخ من الأثقل إلى الأخف هو التخفيف على العبد وتيسير عليه وهذا هو جهة الخيرية في الناسخ على المنسوخ و إظهار نعمة الله عليه وتذكيره بها وبالتالي يشكر ربه العظيم على ذلك فيضاعف أجره, ويتقوى التذكير بإبقاء تلاوة المنسوخ ويكون أجراً عظيماً في التلاوة بذاتها, ومثاله: نسخ عدم إباحة الأكل والجماع في رمضان بعد صلاة العشاء بإباحة ذلك حتى الفجر, ومنه آية المصابرة الثانية نسخت آية المصابرة الأولى الأشق.ـ وحكمة النسخ قبل العمل بالمنسوخ كما في آية النجوى هو الامتحان على الإيمان به والمثوبة عليه وعلى نية العمل به.ـ وحكمة نسخ التلاوة وإبقاء الحكم هو امتحان النفوس في الطاعة والامتثال لذلك الحكم مع كونه مظنوناً.ـ وللتدرج في التشريع وهي سنة إلهية تعالج طبيعة النفس البشرية لدفعها إلى المقصود الشرعي وتهيئتها له وتسيس الأمة والمجتمع الاسلامي, مثاله ما جاء من مراحل ثلاث في حكم الخمر حتى حُرِّم في الثالثة.ـ تطييب نفس النبي (صلى الله عليه وسلم) وهذا يتضح من ارضائه باتخاذ البيت الحرام قبلة في الصلاة بدلاً من بيت المقدس.ـ وعموماً فالنسخ فيه مراعاة مصالح العباد والتي هي بطبيعتها تختلف من زمن إلى آخر ومن حال إلى آخر.