مسقط ـ العمانية :
يطرح الكثير من الباحثين السياسيين هذه الأيام الكثيرمن الأسئلة حول مستقبل منطقة الخليج العربي والروابط التي تربط بين دولها، وهل هي وليدة ظروف سياسية آنية أم أنها تاريخية خالدة. هذه الأسئلة تبدو مهمة في المشهد العربي الحالي وفي حديث التقارب الحضاري بين دول المنطقة من منطلق التاريخ المشترك والمخاطر المشتركة والمستقبل الملتبس الذي يحتاج إلى الكثير من التكاتف ولكن على مبدأ السلام والوئام.
في ظل هذه الأسئلة الحائرة صدر عن وزارة التراث والثقافة الأسبوع الماضي كتاب مهم يبدو انه يحمل بين صفحاته إجابة معقولة للاسئلة المطروحة أعلاه ليس من منطلق سياسي أو عسكري او حتى اقتصادي ولكن من منطلق أثري.نعم أثري، فالآثار والمكتشفات الأثرية في منطقة الخليج العربي تكشف أن المنطقة ظلت على الدوام وحدة حضارية كان التشارك والتآزر أهم علاماتها على مر العصور.. بدءا بعصور ما قبل التاريخ ووصولا إلى العصر الإسلامي، العصر الذي شهد مشاعل النور وهي تشعل شبه الجزيرة العربية وتخرجها من فترات الظلام التي سيطرت على العالم في مراحل مختلفة.حمل الكتاب عنوان "الخليج العربي وحدة حضارية عبر العصور" الكتاب وزع في افتتاح المعرض الدوري المشترك لآثار دول مجلس التعاون الخليجي، وكان الأمر مقصودا في هذا المحفل المشترك. ومنذ مقدمته يؤكد الكتاب أن دول الخليج العربي شهدت منذ العصور المبكرة وحدة جغرافية وتاريخية احتلت معها مكانة مرموقة في تاريخ حضارات الشرق الأدنى نتيجة التفاعل البشري والاقتصادي والثقافي المستمر بينها وبين الحضارات من حولها امتدادا من بلاد السند إلى بلاد الرافدين وسوريا حتى نهر النيل والبحر المتوسط.وبكل ذلك يمكن تمييز السمات الحضارية المشتركة والتنوع الثقافي بين شعوب دول الخليج العربي من الكويت شمالاً إلى السلطنة جنوبا منذ 6000 سنة قبل الميلاد، حيث جمعتهم عرى الترابط ووحدة الهدف والمصير، ثم تواثق الأمر بعد إشراق نور الإسلام على أرض شبه الجزيرة العربية. ويتفق معظم علماء الآثار والمختصون في دراسات العصور الحجرية على أن أقدم فترة استيطانية للإنسان على أرض دول الخليج العربية تعود إلى مليون سنة قبل الآن وهذه المرحلة تسمى علمياً مرحلة ما قبل التاريخ.. حيث اكتشفت على أرض الخليج نماذج من أقدم المجتمعات البشرية التي استعملت الأدوات الحجرية، فقد كان الإنسان على هذه الأرض يعيش حياة بسيطة يعتمد خلالها على الصيد وجمع القوت من خلال المواد المتاحة وفي ظروف بيئية صعبة إلى حد كبير، وهو ما يوضحه الكتاب ويناقشه في فصوله التي خصص كل واحد منها لدولة من الدول الست.
ولجأ إنسان الخليج العربي في مرحلة العصور الحجرية إلى استخدام المتوفر لديه من البيئة لصنع الأدوات التي تمكنه من كسب قوته والدفاع عن نفسه ومنها الحجر والعظم والخشب. وكان أقدرها على البقاء والديمومة تلك المصنوعة من الحجر وقد تطورت هذه الصناعة عبر العصور حتى وصلت إلى مستوى من الدقة والمهارة في الصنع ونوعية الحجر المستخدم ولهذا سميت بالعصور الحجرية.
على أن إنسان الخليج العربي تميز في عصر لاحق على هذه المرحلة والتي تسمى بالعصر الحجري القديم الأعلى بأن ظهرت له تقنيات جديدة مكنته من صنع أنصال حجرية من لب الأحجار المنشورية الشكل يمكن تطويعها بعد ذلك لعمل أدوات خاصة بأغراض معينة.
وفي عصر لاحق هو العصر الحجري الحديث شهد الإنسان تطورات كبيرة قياسا بما قبله. حيث عرف الإنسان لأول مرة حياة الاستقرار وتكوين المجتمع.. وهنا بدأ بتربية الحيوان واستئناسه واكتشف الزراعة وانتاج المحاصيل التي يحتاجها لقوته كما توصل إنسان العصر الحجري الحديث الي اكتشاف تقنيات جديدة لصنع الأدوات الحجرية عن طريق شحذ وصقل أطراف الحجارة فتمكن من عمل أنواع متعددة من الفؤوس ورؤوس السهام والسكاكين وغيرها.
وخلال العصر البرونزي شهدت منطقة الخليج العربي تطور ثقافتين رئيسيتين أصيلتين هما : حضارة مجان في الجنوب وحضارة دلمون في الشمال وقد ورد أسماهما في النصوص المسمارية في بلاد ما بين النهرين.
وتشمل حضارة مجان حالياً السلطنة وجنوب دولة الإمارات العربية المتحدة وقد تميزت بمنظومة ثقافية اجتماعية تستند إلى حد كبير الى التحالفات القبلية والى استغلال الاقتصاد والمنتجات البحرية. كانت مجان أيضا مشهورة باستخراج النحاس والمتاجرة به، الذي كان يشحن حتى بلاد ما بين النهرين والهند في سفن بحرية كبيرة كانت تصنع من عيدان القصب وحزم الخوص.
أما حضارة دلمون فقد تطورت في المناطق الشمالية من الخليج العربي، وكانت المراكز الحضرية لدلمون مستقلة سياسياً عن جنوب بلاد ما بين النهرين، لكنها اعتمدت نفس الشكل السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وازدهرت مراكزها من خلال التبادلات الاقتصادية بين المدن المزدهرة في بلاد ما بين النهرين والمجتمعات الغنية الأخرى في عُمان وإيران والهند.
أما مرحلة قبل الإسلام فقد برز العرب على مسرح الأحداث التاريخية من مطلع الألفية الأولى قبل الميلاد وشهدت القرون التالية نشاطات ونزاعات متشابكة كان لمنطقة الخليج فيها دور مهم إذ دخل العرب في تجارة وحروب مع جيرانهم كما يتبين من النحت الأشوري الذي يعود للعام 853 قبل الميلاد. وطوال الألف الأولى قبل الميلاد توطدت العلاقات التجارية بين مناطق الشرق الأدنى وشرق أفريقيا وجنوبي آسيا والخليج العربي بحكم موقعه المتوسط على الطرق التجارية المهمة ونشأت مدن في مناطق مختلفة من الخليج العربي اتخذت مواقع استراتيجية على امتداد طرق القوافل التجارية. وواصلت ازدهارها في الفترات التي تزامنت مع الأشوريين والبابليين والأخمينيين والبارثيين وفترة خلفاء الأسكندر المعروف بالهلينستية.
وخلال النصف الأول الميلادي تأثرت منطقة الخليج العربي بالصراع بين الروم والفرس للسيطرة على العالم القديم فتبدد الاستقرار النسبي الذي كانت تتمتع به. وتحولت المنطقة إلى مسرح من التنافس بين القبائل فيما عرف بالعصر الجاهلي. كما ظهرت خلال تلك الفترة ممالك عربية متأخرةموالية للروم أو الفرس ويعد الغساسنة في الشمال الغربي والمناذرة في الشمال الشرقي مثالين بارزين لتلك الفترة التي سبقت مباشرة بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية ولذا كانت منطقة الخليج العربي من أوائل الأقاليم التي وصل إليها الإسلام مما جعل الفترة الإسلامية حاضرة فيها بجميع عصورها، وتنتشر المواقع الأثرية الإسلامية الآن في جميع دول مجلس التعاون ويمكن هنا ذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر: موقع / الربذة / و/ المابيات / ، و/ فيد / ، و/ الجار / في المملكة العربية السعودية، وموقعي / الدريحانية / و/ قدفع / في الامارات. كما يعد مسجد سوق الخميس أقدم بناء إسلامي في مملكة البحرين وكذلك القلعة الإسلامية التي تعود للقرن الرابع الهجري. وفي الكويت يعد موقع كاظمة من أهم المواقع الإسلامية الذي يعود إلى بداية القرن الثالث الهجري، وفي السلطنة تعد صحار وبهلاء و/ البليد / من المواقع الإسلامية إضافة إلى عدد كبير من القلاع والحصون المنتشرة في كل مناطق السلطنة. وفي قطر يعد موقع / مروب / الذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع الهجري الموقع الإسلامي الأهم وقد عثر فيه على مسجدين وقلعتين.