إذا أردنا أن يكون بناء بيتنا ثابتـا قويما نلجـأ إلى مهندس بناء لأخذ الاستشارة الهـندسية ، وإذا اعــتـزمــنا معــرفة صحة وضعنا القانوني في أمر ما نذهب إلى مستشار قانوني ، وإذا ابــتغــيـنــا الاطمئـنان على صحتـنا الجــســمانــية نحدد موعدا مع الطبيب لأخذ الاستشارة الطبية .
ولكن هل جربت يوما أن تبلغ أحدهم بأن يعرض حالته على طبيــب نفــسي بعد أن رأيت منه مؤشرات غير سوية في تصرفاته الــشخصية . ماذا ستكون ردة فــعله ؟!
بالطبع سيغضب ويتهمك بالوقاحة والغباء ، وسينصرف عنك ساخطا مخاصما، وليس ببعيد أن يشطب اسـمك من قائمـته الحـياتيــة ويــنـهي وجودك من دنــياه ، وكــأنك بقــولك هذا أصدرت لــه شــهادة "مجـــنون رســـمي" وتــعديت على كــبريائـه الذي لا يــضــام وكـــرامــته الـتي لا تـــدنــس .
بــيـنمـا الحياه الــتي نــعيشــها تــصـيب العديــد من الـناس باضطرابات وصدمــات نــفسية نـتـيجة لأحــداث عــايــشــوها أو مـــواقف مــروا بــها أوحــتى مــشاهدات تــعرضــوا لــها في الصغر أو عبر مراحل حياتهم المخـتلفة، ويـبــقى أثــرها لا يــزول في أعــماق ذواتــهــــم كامــنة فــي اللاوعـــي ، وتـــطـفــو عــلى الســطح كـتصرفات وتــوجـهات من هــذه الـشخصية أو تــلــك تــؤثــرعــلى الــمحــيطــين بــها وتــكبــدهم االــظــلم والإجــحاف والألم والمعاناة ، بـــيـنــما هذه الشـخصـية تــعتـقد في قــناعــة نـفـسها بــان ما تــقــوم بــه هــو الــصـحــيح . والضرر اكبر حين تكـون هذه الشخصية مــتــولية مسئولية أو صاحبة قــرار ، مؤثرة على شريحة اكبر من الناس.
فـلنــأخذ عــلى ســبيل المثال الأب الــمتـسلــط علــى ابـــنــائه الذي يــقوم بتعــنــيـفهم وضربــهم عند كل صغيرة وكبيرة بــدعــوى تــأديــبـهـم فلا شك بأنــه تــعرض لشكل من أشكال الـعــنــف فــي صغــره ، إن هذه الــمعامــلة الــمــتـوارثـة تــوقع الأذى الــعمــيق لــصحة الــطفل الـنفسـية فـينـشأ في حيــاته خائــفا كارها لـــيس لــوالده فــقط وإنـــما لـــكل صاحب نــفوذ أو سلطة يعتقد بأنه يمكن أن يؤذيه .
وكــذلك الــرجل الــذي يــعامل المــرأة بازدراء ودونــيـة لا بد أن لــديــه اضطرابات نــفســية كــامنـة متســلطة عــليه ، تــوجــهه لــهذا العمــل وأسباب ذلــك قــد يــعـــــود إلــى مشاهــــدات قــديــمة أثـرت عــلى شــخصيته وجــعلـته في قـناعــة خـاطـئة بـأن هذا هـو أسلوب التــعامل الصحيح مع الــمرأة ، حــتى لا تــتــطاول وتــأمر وتســيطر عــلى الــرجل وهــي الــتي خــلقت من ضلع أعـــوج ، نــاقــصة عــقل وديـــن .
وذلك الانــعزالي لابــد وأنــه يــعاني من اضطراب نــفســي وصراع انفــعالي ذاتــي لا يـُـمّــكــنه من الــتـفــاعل مــع مــحيــــطــــه والانـــدمــاج مــع مــجــتمعــه ، يــغــويــه عــقله الـــمــؤتـــمر باللاوعــــي ، بــأن الامـــتــناع عــن الــنــاس ســـلامــة من الناس ، محــيطا نــفـسه بعالم من الأوهــام يســيره ، خائفا من كلمات تــجــرحه أو أفــعال تـــؤذيــه . ويــعـيش مع ذاتــه مــتعــاطـيا بــجــمود آلــي بــأقــل قــدر مـــن الــتــعـاطي مع من أوجــدتــهم الظروف حــوله مثل عائــلـته أو المــوظـفين في مــقر عــمله .
هــذا الــنمــوذج قــد يــكون تــعرض في وقــت مــا فــي حــياتــه إلــى تــجارب قــاســية من مقــربــين فأوصـلـته إلـــى ما هــو عــليه من تــلبد فــي الــمشاعر ورغــبة فــي الانــطــواء والانــعـزالية ، وعــمم عــلى النــاس صــفات الحــقد والحسد والنــفاق والانــتهازيــة والخــيانة والاسـتهـتار والتكــبر وكل صــفات البشريــة الــمخــزيــة المـترســخة لــدى البــعض . ونســـى الجــوانب المشرقــة لــــدى الكـثير من الناس من إيــثار ومحـبة وتعاون ووفاء وعـطف وتــواضع ... الحياة فــيها هذا وذاك ، "والــمــؤمـن الــذي يــخالط النــاس ويــصبر عــلى أذاهــم أعــظم أجــرا من الذي لا يــخالط النـاس ولا يصبر عــلى أذاهــم"
الــمــشكلــة هــي عــدم الــوعـي بالمــشكلة ، والــمشــكلة كــامنــة فــي كــهف الذات ، وصـاحـبها لا يــعــترف بــوجودهــا . بــل يــزيــن لـنـفـسه ســوء عــمــله .
فــلنـنــظر إلــى صــاحب الثــروة ، الغــني ، الــذي يــبــخل عــلى عائـلـته وأهــله ومـــوظــفي شركــته عــلى الــرغــم مــن أنــه يــكســب من الــمال الكــثــير ، فــلا يــمنــحــهم إلا الــنــزر الـــيســير، فـــلا هــدايــا ولا مــكافــآت ولا عــلاوات أو زيـادة رواتب ، بــل يــذهــب أبعــد من ذلــك فــيبـخل حــتى عــلى نــفسه ، ولا ينفق إلا بأقل الإنــفاق مضطرا وعــلى مضض . فــإذا رجــعنا إلــى مســار حـــياتــــه، فــنجــد أحداث أدت إلــى هذه الــحالة الــنفــســية وأوصــلـتــه إلــى الــتــقــتـير فــي الإنــفاق وكــثر تــكديس الأمــوال ، مـقـنعــا نــفـسه بأن فــي ذلــك أمــان واطـمئــنان ووقــايــة من تــقـلبـــات الــزمــن الـغادرة . وقـد تــكـون قــناعاتــه هذه مــردهـــا إلـى نشـأتــه الفقيــرة الأولــى الــتي عــانـى فــيها ضــنك العــيش وقــســاوته فــحفر ذلــك عــمــيقــا فــي ذاتــه الخــشــية من الــوقــوع فــي بــراثــن الــفــقر وشــباك الــعوز كــما عايشـــه فـــي الــماضــي الــبعيد .
الــعــقــد الـنفسية مســألة مــعقــدة وغــامــضة ومســتــوطــنه فـــي مكمــن اللاوعـــي فـــي أعمــاق الــذات ، يــعيش صاحــبها حــالــة من الــرفــض والانــكار لـــوجـــودهــا ، ويــعــتـقــد بــأن تــصرفاتــه هــي عـين الصــواب والآخــريـن عــلى خــطأ وقــد يــعيش ويــمــوت دون أن يــغــير قــناعــاته الــمترســبة إذا لـــم يــطلب الاستـشارة النـفســية .
فــلــماذا لا تــذهب الناس في مجـتماعـتنا العــربية لطلب الاستشارة النفسية بهدوء وبساطة ولو على سبيل الاطمئنان على صحتهم النفسية نتيجة لضغوط الحياة وابتلاءاتها .
والجــواب ، لأنــه لا تــوجد لـدنيا الثــقافة النفسية الصحيحــة ، ولا يـــزال الــمجــتمع يــنظر بــريـبـة وارتــباك وأحيانا بـســخريــة لــلـذي يــفكــر للــذهـاب للــطـبيــب النــفــسي ، وقد يــشاع عــنه بــأنــه مــخــتل أو مــجـنون .
بــيــنــما الدول الــمتــقدمـة أغــلب الأشـخـاص لــديــهم طــبـيــبــهم الــنـفســي الــذي يــخــــفف من عــقــدهم ويــنــصــحـهم ويــعــيــنــهــم فـــي اتـــجــاه الاتــزان الــنــفــسي وزيــــادة الــفاعــلــية الذاتــية من أجل صحـــة نــفــســية عـــاليــة الــمــســتوى .
والآن اســـأل : هــل جربت أن تــعرض نــفــسك عــلى طــبيب نــفـسي ؟

نمير بن سالم آل سعيد