أمارس التواصل الشبكي (واتس- أب) منذ أكثر من سنة ضمن مجموعات أصدقاء (قروبات) ألتقي مع هؤلاء الأصدقاء على منصات (الشات) وتدور بيننا دردشات بعضها يعبر عن الطفولة المكبوتة في داخلنا، وبعضها يعبر عن السمو النفسي والأخلاقي وبعضها يجتر مشاعر رجل القبيلة في أعماقنا بشهامته وكرمه وشجاعته وبعصبية وعنجهية أحيانا. وتتحول المنصات أحيانا إلى ( هايد بارك) فتسخن المناقشات ويشتد المراء والجدال إلى درجة المناكفة الافتراضية التي يمكن أن تحدث لو كان القوم وجها لوجه. تنقضي الأوقات وتمضي الساعات والمضاربة الكلامية ملتهبة، وعندما يغلبني النوم وأضع الجوال جانبا، أسمع في كل دقيقة تنبيه استلام رسالة جديدة. وعندما أستيقظ في الصباح لصلاة الفجر أبدأ فورا بفتح المنصات لأرى ما قيل وما تم تداوله من صور ونصوص، وعندما أرجع من المسجد بعد صلاة الفجر أفتح الهاتف بشغف، فأجد من سبقني من بين الأعضاء بإرسال دعاء أو حكمة. العجيب أن في (القروبات) اتجاهان، اتجاه يلتقط الصور المأساوية ويرسل أخبار الكوارث ويتفنن في إشاعتها بعد إضافة التهويل والتشويش ويسارع إلى بثها وإطالة مداها، بينما يقوم فريق آخر بإرسال مقاطع التفاؤل والابتهاج وإشاعة الأخبار السارة عن البلد وعن الناس والعالم.
هناك من يرسلون مشاهد يلتقطونها بكاميرات هواتفهم تظهر جمال مناطق بلادنا التي يذهبون إليها، والخيرات التي يزخر بها الوطن والإنجازات التي يزدان بها ويستمتع بها المواطن، يلتقطون لحظات الشروق الجميلة ولحظات الغروب الساحرة، يتفاعلون مع البيئة بكائناتها المختلفة، مع أشجارها وهضابها وجبالها وشواطئها كما لو كانوا يمارسون سيمفونية غزل جميل مع الحياة، ويختمون تفاعلهم بالحمد والشكر والدعاء بأن يديم الله هذه النعمة ويحفظها من الزوال، بينما ينقل آخرون صور التصحر وتيبس الأشجار ومشاكل التلوث والتقاط الشائعات المرجفة وغرائب الأخبار ومآسي العالم، وما يحدث في الشرق والغرب من رعب وكوارث، ويبحثون عن كل ما يسبب الحزن ويبعث على الاكتئاب والانضمام إلى طابور حملة الأكفان. بل ويبلغ بهم الأمر أن يلتمسوا ما يقرب إلى قيام الساعة والنفخ في البوق والتكهن بموعد نهاية العالم وقيام الساعة. بل هناك من يعتقدون بأن الساعة قريبة ويا ليتهم يحسنون العمل لها بزراعة شجرة أو تقديم قربات إلى الله أو طلب الصفح والعفو ممن يسيئون إليهم، لكنهم فقط يزينون الخوف من المجهول ويمارسون إرعاب الناس.
إنها أنماط التفكير التي يمكن تصنيف الناس وفقا لها. أشخاص ينعمون بالهواء والماء والشمس والشروق والغروب وبكل نعمة منحها الله لهم والتماس الخير في كل موقف من مواقف وتجارب الحياة مهما كانت مظلمة عند الطرف الآخر، وأشخاص يتمتعون بكل مباهج الحياة وجمالها وروعتها، لكنهم يفتقرون إلى الشعور السوي بنعم الله علينا.
إنها ثنائية الخير والشر، النور والظلام، السعادة والحزن، وعلى كل شخص أن يختار موقعه بين طرفي هذه الثنائية. فليس هناك جبرية تخضع الناس أن يكونوا سلبيين أو ايجابيين، بل هناك اختيار وحرية وقابلية بالفطرة تمنح الناس أن يقرروا بأن يكونوا سعداء وإيجابيين أو تعساء وسلبيين. ولكل شخص أن يختار السمة التي يتطبع بها ويفكر بها ويعيش وفقا لها.
هناك من الأشخاص من ينتصر على الاكتئاب والتفكير السلبي وينتقل إلى طابور الإيجابيين. أعرف أشخاصا انتصروا على سلبية تفكيرهم بالعبادة وآخرين تغلبوا على سوداوية مزاجهم بالعمل الخيري التطوعي، وهناك من يمارس هوايات مفيدة. ومن الناس من يتحرر من سلبية تفكيره بالعمل والتجارة. المهم ألاّ يكون الإنسان فارغا، لأن الفراغ مفسدة للإنسان والمجتمع والإنسانية.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس مكتب النجاح للتنمية البشرية