إعداد ـ علي بن عوض الشيباني:
أيها القراء الأعزاء:
من هذا القبيل كلمتا: (القعود والجلوس)، والمتأمل لآي القرآن الكريم واستعمال هاتين الكلمتين, يدرك روعة العربية من جهة , وإعجاز الكتاب الخالد من جهة ثانية,فالقعود إنما يستعمل لما فيه ليث ومكث, أما الجلوس فيستعمل فيما ليس كذلك, قال تعالى:(والقواعد من النساء). (وقيل اقعدوا مع القاعدين)، (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)، (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع)، وهذا يبين حرصهم على استراق السمع.
أما مادة: جلوس, فلم تأت إلا في قوله تعالى: (إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم).
وهذه المجالس عادة لا يطول المكث فيها,ومنه الحديث الشريف:(مثل الجليس الصالح وجليس السوء) والحديث الآخر:(إياكم والجلوس على الطرقات).
ومن أسرار العربية أن (القاف والعين والدال) تدل على اللبث والثبات فمنها مادة: قعد التي تحدثنا عنها من قبل, والدقعاء: للتراب الكثير الدائم الذي يبقى في مسيل الماء, ومنه: العقد الذي يستعمل لعقدة النكاح, والعقيدة: وهي قضايا ثابتة.
أما (الجيم واللام والسين) فعلى العكس من ذلك, ففيها الحركةو ومنه: السجل للشئ المتحرك الذي لا يبقى عند صاحبه.
والطريف أنهم ضموا عين المضارع في قولهم:(يقعد) وكسروها في قولهم:(يجلس) والكسرة أخف من الضمة,فاستعملوها لما فيه الحركة, واستعملوا الضمة الأثقل لما فيه المكث.
* الإعطاء والايتاء: على رغم ما بين هاتين الكلمتين من تشابه في اللفظ, واتحاد في الاستعمال عند كثير من الناس,ومع ذلك فينهما فروق, ويشهد لذلك الاستعمال القرآني ,فما هي الفروق بين الايتاء والاعطاء يا ترى؟
ينقل صاحب البرهان عن الجويني أن الاتيان أقوى من الاعطاء في اثبات مفعوله.
وهناك فرق آخر بين الاعطاء والايتاء,وهو أن الاعطاء إنما يكون على جهة التمليك, قال تعالى:(هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب)، وقد لا يكون الايتاء على جهة التمليك.
وفرق ثالث: وهو أن الايتاء لا يكون إلا للشئ الكثير, والعظيم الشأن,وقد يكون الاعطاء للقليل, قال تعالى: (أفرأيت الذي تولى* وأعطى قليلا وأكدى).
ويمكننا أن نتدبر الآيات القرآنية على ضوء هذه الفروق التي ذكرناها وأول ما يخطر للفكر معرفته ليلمح فيه الفرق بين هاتين الكلمتين قوله سبحانه:(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)، وقوله:(حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).
فانظروا كيف عبر عن كل من الزكاة والجزية ففي جانب الزكاة استعملت كلمة الايتاء فيمكن أن نلمح الفروق التي ذكرناها من قبل فهي عطاء على سبيل التمليك من جهة, وهي أكثر قوة في اثبات مفعولها كذلك,لأن المؤمنين يخرجونها خالصة من قلوبهم ولا كذلك الجزية, ولقد استعمل الايتاء كذلك بجانب الملك والحكمة, قال تعالى:(قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء)). وقال تعالى:(يؤتي الحكمة من يشاء)، (وآتيناه الحكم صبيا) ، (وآتيناهم ملكا عظيما).
أما الاعطاء: فيكفي أن نقرأ فيه هذه الآية:(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون)، وإعطاء المنافقين لا لكونهم يستحقونه , يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم):(إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه).
وقد يتساءل بعضكم: ماذا تقول في قوله تعالى:(إنا أعطيناك الكوثر) ، (ولسوف يعطيك ربك فترضى).
والجواب عن ذلك , أن هذه الذي أعطيه النبي (صلى الله عليه وسلم) هو قليل في حقه وهو قليل كذلك إذا قيس الى ما هو أعظم منه.
*السنة والعام: ونقرأ في كتاب الله تعالى آية ذكر فيها كلمتان اثنتان جاءت كل في موضعها لا أقول الذي يناسبها فحسب, ولكن أقول الذي لا يناسبها غيره, قال تعالى في سورة العنكبوت:(ولقد أرسلنا نوحا الى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما). وتأملا في كل من الكلمتين على حدة نستنتج ان هناك أكثر من فرق بينهما.
فالسنة: تلقي من منطوقها ظلال الشدة والقحط والصعوبة , والعام: على العكس من ذلك, قال تعالى:(ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون).
وفي الأثر:(سنين كسني يوسف). فالسنة تدل على القحط والعام يدل على الرخاء.
وهناك فرق آخر وهو أن السنة تستعمل أكثر ما تستعمل في السنة الشمسية على حين يستعمل العام للقمرية, ونحن نعلم أن بينهما أحد عشر يوما تقريبا, ومن هنا فلا عجب أن تدهشنا روعة التعبير في اختيار الكلمات حيث ذكرت السنة فيما قضاه نوح عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه, وذكرت كلمة: العام بجانب المدة التي استثنيت من ذلك, وفي هذا تصوير لما عاناه ـ عليه السلام ـ من شدة في الأمر ومقارعة لأعداء الله وطول أمد , وإذا تدبرنا كتاب الله تعالى فإننا لن نجد أي كلمة منه تشبه غيرها فضلا عن أن تسد مسدها.