قراءة في (الفقه الاسلامي: المشترك الإنساني والمصالح)

الكرامة الإنسانية ستذوب كل الفوارق المفتعلة بين البشر، ابتداء من الدين نفسه ثم الجنس واللون والعرق

أجوبة القرآن الكريم وتوجيهاته تؤصل لمبدأ المساواة، وتضع نهاية سحيقة لكل أشكال التمييز والعنصرية

حرية الدين واختيار المعتقد في الإسلام تعدت موضوع الاختيار المحض إلى احترام المقدسات لدى الشعوب

قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
جاءت ندوة تطور العلوم الفقهية في عُمان من خلال عنوانها (الفقه الاسلامي: المشترك الإنساني والمصالح) والتي عقدت خلال الفترة من 6 إلى 9 جمادى الثانية 1435 هـ، الموافق 6 إلى 9 ابريل 2014م في نسختها الثالثة عشرة من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بتوجيهات سامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
ومن ضمن ما قدم خلال الندوة من بحوث وأوراق عمل كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان:(حقوق الإنسان في القرآن الكريم) للدكتور سيف بن سالم الهادي ..

يقول الدكتور سيف الهادي في بحثه: في السطور القادمة إيجاز لبعض الحقوق التي تقررت للإنسان في القرآن الكريم: الحرية وكرامة الإنسان ، حيث تنطق آيات القرآن الكريم بفصاحة بيّنه بكرامة الإنسان واعتباره الخلق الذي كرمه الله وأسجد له ملائكته، وقد نظمت هذه الآيات مشاهد متتالية لمسلسل خلق الإنسان وحياته المستقبلية ( المنشأ والخروج ، والعودة) وبدأت : إرادة إلهية في إبداع مخلوق الجديد ، وإعلام الملأ الأعلى بهذا الحديث العظيم (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).
وقال: وهناك اكتساب المعرفة الأولى عن نمط الحياة الحضارية ذات القصور والأنهار وكافة أنواع الإبهار من خلال دخول الجنة، وفيها كل مظاهر الحضارة التي سيمنح الإنسان لاحقا القدرة على ابتكار أشباهها " وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" ، وهذا بخلاف اعتقاد العقلية الغربية أو الشرقية التي لا تخرج بالإنسان من دائرتين إما لأن أصله "قرد" أو أنه ظهر في بداياته بشكل بدائي لا يعرف حتى ستر عورته، واخياره ليكون خليفة الله في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
مبيناً هنا بقوله: اما في الكرامة الإنسانية ستذوب كل الفوارق المفتعلة بين البشر، ابتداء من الدين نفسه ثم الجنس واللون والعرق والطائفية والحزبية، فلا فرق بين هذا وذلك في الإعتبارات القانونية والتقاضي والمثول أمام المحاكم.
واوضح الدكتور الهادي انه ومنذ القدم كانت المجتمعات البشرية تمارس ضد الطبقات الضعيفة أنواعا مختلفة من الإهانة والعنصرية، لكن آيات الله تعالى المتنزلة على الرسل الكرام ترفض هذا التمييز، وتأبى أن تجعل له اعتبارا في مسيرة الدعوة بالحق، وقد سجل القرآن الكريم هذه المشاهد بفصاحة تامة، فمنذ عهد نوح عليه السلام كان قومه يعتبرون بعض أفرادهم شرذمة من الناس ليس لهم في المجتمع وزن معتبر، ولذلك طالبوا أولا بطردهم، فأصحاب المكانة الإجتماعية لا يمكن أيكونوا مع الوضيعين في قرن واحد:"قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ، وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ" (الفرقان)، حيث ظلت البشرية منذ تلك القرون تمارس نفس النظرة الدونية للضعفاء، ففي عهد نبينا (صلى الله عليه وسلم) يسجل القرآن الكريم مشاهد مع زعامات قريش حينما يعتبرون مثل بلال وصهيب وابن أم مكتوم وغيرهم طبقات دنيا فينزل القرآن الكريم لإنهاء هذا التميز (عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
وقال: ان أجوبة القرآن الكريم وتوجيهاته تؤصل لمبدأ المساواة، وتضع نهاية سحيقة لكل أشكال التمييز والعنصرية، تمهيدا لحق التقاضي والمساواة أمام القانون، فالبشر جميعا من أصل واحد، يعيشون في الأرض للتعاوف والتآلف، وبينهم حقوق متساوية، وتبقى الأفضلية الأخروية لأهل التقوى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
مؤكدا بأنه وعلى هذا الأساس فلا يجوز التمايز على أساس العرق أو الجنس أو اللون، بل وحتى الدين، فالجميع بشر من الدرجة الأولى، لا يصح أن يسخر بعضهم من بعض أو يتنابزوا بالألقاب:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وتنكير "قوم" لتشمل الناس جميعا بمختلف أطيافهم ودياناتهم.
وحول وقف الرق أشار الهادي الى ان الحرية تقتضي وقف أشكال الرق، ورفض الاسترقاق تحت أي شعار، فالحرب التي كانت مصدرا للرق في القديم من خلال الأسر، جاء الإسلام ليجعل للأسرى منافذ أخرى تعيدهم إلى أوطانهم بالعفو أو الفداء:(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)، وقد وفر الإسلام تعاليم كثيفه لإنهاء حالة الرق في المجتمعات المسلمة، عبر جملة من التعاليم، بعضها يتعلق بالعتق المباشر كالكفارات:(وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، وآيات كفارة العتق تشمل اليمين والقتل، والعمل الصالح الذي يتقرب به الإنسان إلى الله:(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ، فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ).
وقال: ان بعض هذه التعاليم يتعلق بالترغيب في المكاتبة حالما قرر الرقيق أن يعود إلى حياة الحرية، فكأن الأمر أصبح بيده، متى ما طلب الحرية بالمكاتبة فله ذلك مع حث الأسياد أن يبذلوا من أموالهم لمساعدة طلاب الحرية (.. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
مؤكدا بأن القرآن الكريم جاء ليعالح واقعا كانت تعيشه البشرية امتهنت فيه قنص الناس وسوقهم إلى أسواق الرقيق، سواء كان ذلك في الغارات والحروب أو بالعثور عليهم في قوارع الطريق، فأخوة يوسف عليه السلام كانوا على علم بأن أخاهم سيباع وينتهي أثره عندما تمر عليه سيارة من الناس" قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ" ويصور القرآن الكريم موقف الضمير الإنساني عند تلك الأمم عندما تجد هذه السيارة طفلا صغيرا وديعا في بئر عميق فيصيح واردهم (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)، بدلا من أن يقول (يا أسفى هذا غلام) وما إن ضموه إلى الراحلة حتى شروه (بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) وكما يقول العمانيون "بيع اللص مخلص" وفي السجن يكون من هؤلاء الرقيق أثنان أيضاً ضمن مجموعات تزحم القصور (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).
موضحا بأن الإسلام قد جاء ليعالج هذا الواقع المرير ويجعل حدا لهذا النزف الإنساني المهين فيبدأ يرفع مستوى الرقيق إلى مستوى الأحرار وهو ما عجل بنهاية الرق حيث كان المقصد منه الطبقية العرقية، فلما انتهت لم تكن هناك حاجة إلى احتضان من يتساوون مع غيرهم في الحقوق والواجبات، أما بقاء صور الرق والرقيق آمادا في بلدان المسلمين إنما يعود إلى رغبة الدول التي تعاقبت عليهم في استرقاق الناس بغير وجه حق، وسوق الإماء إلى قصور الأمراء حتى وإن كن مسلمات، وذلك هو الذي استبقى ظاهرة الرق في عالم المسلمين حتى توقيع اتفاقية حقوق الإنسان عام 1948م، ثم اتفاقية جنيف في معاملة أسرى الحرب عام 1949م.
اما عن حرية اختيار الدين فيقول الدكتور الهادي بأن القرآن يؤصل لهذا الحق، ويعتبر الإنسان بعد أن حصل على كافة وسائل الإدراك حرا في اختيار دينه، فبعد أن عدد الله تعالى أنعامه على الإنسان ليكون قادرا على الإدراك (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)، منحه حرية اختيار الدين بعد قيام الحجة عليه (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، (إنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" ولسوف يتمتع بحياة كريمة حسب ما يشتهي من هذه الدنيا، ولن يكون اختياره الخاطئ سببا في حرمانه من الأرزاق المقررة له (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)، (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)، كما سيحظى بحصانة شرعية تمنع اجباره على الإيمان (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وترفض في الوقت نفسه أن تمنح أي سلطة دينية لأي شخص كان ـ نبيا أو حاكما أو فردا من المسلمين ـ في إكراه أحد على الإيمان (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وإنما تقتصر أدوار هؤلاء على الدعوة والتذكير من غير استخدام أي أسلوب سياسي أو فكري يرهب المدعوين (وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ).
مؤكدا بأنه كما ستتمنع معتقداتهم وآلهتهم بحصانة أخرى تمنع المسلمين من الاعتداء عليها بالقول (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، بل حتى في المجالس الخاصة التي يتناول فيها هؤلاء الناس الرموز المقدسة فإن الذي يطالب به المسلم حينئذ هو الانصراف ورفض المشاركة في الحديث، حتى لا تكون العاطفة الدينية مادة للصراع؛ فيهلك الحرث والنسل، وإذا عاد الناس إلى حديث آخر فلا يمنع شيء من العودة إليهم ومواصلة الحوار في القضايا الأخرى، يقول سبحانه:(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)، إلا أن الذي يمنع منه هؤلاء هو الإرجاف الفكري والعقدي والسياسي، واستقطاب المؤمنين إلى حوزاتهم (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)، فليس هناك مانع أن يعيش المنافقون وأصحاب الديانات الأخرى في الدولة المسلمة، ويتمتعون بجميع الحقوق، لكن محاولة إفساد هذا النظام وإرباك المشهد الآمن يعد انتهاكا لحق الجماعه وطلبا للوقيعة بينهم (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ).
موضحا بأنه وما عدا ذلك فإن الاحترام يجب أن يظل متبادلا، وعلى المسلمين أن يستخدموا أقصى درجات الحكمة في دعوة غيرهم دون السماح لأي انفعال عاطفي أن يخرج عن اللياقة الأدبية أو الحكمة، وسواء فعلوا ذلك مع الذين يعيشون في أوساطهم أم الذين يمتلكون دولا مستقلة (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
وقال:إن حرية الدين واختيار المعتقد في الإسلام تعدت موضوع الاختيار المحض إلى احترام المقدسات لدى الشعوب ليس لأنها تمثل الحق أو لأن احتمالية صدق اعتقادها وراد؛ كلا وإنما لأن وظيفة الإسلام بيان الحق وإقامة الحجة، والداخل فيه محتاج إلى تمثل كل القيم الإنسانية والأخلاقية الواردة فيه، ولا يمكن أن يفعل ذلك إلا من دخل فيه طواعية وعن قناعة تامة، أما الذين يتم إرهابهم بالسيف أو إرغامهم بأي نوع من الضغوط الساسيسة أو الاقتصادية فإن هؤلاء لن يكونوا عناصر مفيدة في المجتمع الإسلامي.
مبينا هنا بأن ظاهرة المنافقين في الصدر الأول من الإسلام فقد كانت خيارا اجتماعيا لدى شريحة من الناس أرادت أن تحافظ على مكاسب من الأطراف المحيطة، فمن ناحية تتمسك بالعلاقة مع اليهود وهم أرباب الاقتصاد آنذاك، ومن ناحية أخرى محاولة الاندماج في المجتمع الجديد دون فوارق دينية ظاهرة، ولربما وجد البعض أن حرمانه من اللذائذ الشخصية التي كان يتمتع بها يشكل له مشكلة كبيرة، فقرر أن يبقى باطنيا في حالة الكفر وظاهريا في حالة الإيمان "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ)، (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) على أن أحدا من المسلمين لم يمارس أي نوع من الضغوط على هؤلاء ليسلموا، ولو عاشوا كفارا يعرف المسلمون أحوالهم لكان ذلك خيرا لهم، لأن النفاق سيسبب الكثير من القلاقل في الوسط الإسلامي من جهة وسيكون أشد عذابا على صاحبه من الكفار يوم القيامة (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا).
.. للحديث بقية الاسبوع القادم.