[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
” لو قُدِّر لغسان كنفاني وكافة شهداء الشعب الفلسطيني الأبرار أن يعودوا إلى الحياة في الوقت الراهن, لاستغربوا ما آلت إليه الثورة الفلسطينية بعد كل هذه السنوات، وبعد كل هذا الكم الهائل من التضحيات: انقسام سياسي وجغرافي بين أبناء الوطن الواحد في ظل الاحتلال, نتيجة البحث عن المصالح الذاتية والتنظيمية باعتبارها الأولوية قبل القضية الوطنية والمشروع الوطني،”
ـــــــــــــــــــــــــــــ

هل الوطن ومثلما يقترحون في زمن العولمة هو" كذبة بيضاء .. يروّج لها البعض دون شعور بالذنب, ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة"؟.أجزم بان كل الذين يغادرون ويهاجرون من أوطانهم يشعرون في دواخلهم بالألم. الفلسطيني دوما محاصرٌ بوخز الألم! لم يهجُر وطنه, ولكن هُجّر منه, هو في جحيم الورطة بين الغربة عن الوطن وبين وجع الحاضر, وانسداد آفاقه! ما أقسى المفاضلة بين وجعين وألمين!. هل قدرُ الفلسطيني أن يظل يُغتال ويحرق .. مقاوما, رضيعا, امرأة, شابا وشيخا, صحفيا, شاعرا أو كاتبا؟ ماذا فعل الرضيع علي ليُحرق؟ ومن قبله محمد أبو خضير ومحمد الدرة؟ .هل قدرُ الفلسطيني أن يظلّ وقودا للموت؟ ندرك تماما أننا ومنذ نكبتنا أصبحنا في حالة استنفار وبالدرجة القصوى .. أصبحنا مشاريع شهادة متحركة في الوطن الفلسطيني وفي الشتات. ندرك أن يدي هذا العدو المجرم المابعد فاشي تخطط لاغتيالنا مقاومين وشعبا, وإن اختلفت طريقة القتل! ندرك أننا ومنذ جرى زرع هذا الكيان النازي على أرضنا الفلسطينية – العربية – الكنعانية الخالدة, أصبح لقاء الفلسطيني بالفلسطيني يتم.. في حضرة الموت!. لست أغالي فيما اقول, إنه جزء من حقيقة المتلازمة اللصيقة بين الفلسطيني والموت! .الفلسطيني يعشق الحياة مثل كل الآخرين .. لكن لسان حال العدو وكما عبّرت عنه جولدا مائير: أنهم في أشد حالاتهم امتعاضا صباح كل يوم يولد فيه طفل فلسطيني!. ولذلك.. تمنى رابين: لو يصحو يوما ويكون البحر قد ابتلع غزة!. هذه هي حقيقة عدونا بلا زيف,, لا يغرنّ البعض, تصريحات قادته عن "السلام" الذي هو في مفهومهم يعني استسلامنا جميعا .. فلسطينيين وعربا!. خسئوا.. هم ككل محتل , لا يعرفون صلابة معدننا الفولاذي. ولأننا نعشق التحدي وإمعانا فيه.. أنجب أسرانا المحكومون بالعديد من المؤبدات.. وهم في سجونهم وبطريقة لم يكن قادرا على ابتكارها سوى الأسير الفلسطيني, الاطفال. لذلك يتمنون زوالنا! . كشعب مقاوم : نحب الحياة نعم, لكننا نعشق الموت عندما يكون طريقنا الوحيد للحياة.. لحياة ابنائنا..أحفادنا.. أجيالنا الفلسطينية القادمة.. لن يُنهونا, ولن ننتهي فنحن كالعنقاء ننهض من بين الرماد .. فحيث يحل الفلسطيني.. يحل النماء!. الوطن لا يعني حفنة تراب فقط. الوطن هوية, انتماء, تاريخ, حضارة, ذكريات. الوطن هو فضاء الحرية.. هو بمثابة الرحم لكل المنتمين إليه.. هو الميلاد.. هو الفجر.. , البلابل المغردة في سمائه!هو احتضان الموت أيضا! الوطن هو تجسيد كل هذه المعاني.. هكذا كان مفهوم الوطن بالنسبة لشهيدنا غسان.
أعتقدوا أنهم بتفجيره سينهون دوره الريادي. فهو المزعج لهم ولكيانهم الدخيل (العابر حتما), حيا وميتا. اعتقدوا عند اغتياله, أنهم تخلصوا منه, لكنهم فوجئوا ويفاجأون بأنه ما زال مُلهما للفلسطينيين ولغيرهم . توارى جسدا غير أنه مازال حيا في عقولنا وأذهاننا. مرّت الذكرى الثالثة والأربعون لاغتيال هذا الكاتب, السياسي والمثقف, الأديب المبدع, وقبل كل شيىء.. الإنسان. قام الموساد بتفجير سيارته في 8 يوليو 1972. لم يكن كنفاني قائداً عسكرياً يصدر الأوامر للمقاتلين بالقيام بعمليات عسكرية ضد "إسرائيل" حتى تقوم باغتياله. كان فناناً وكاتباً سلاحه القلم، ومع ذلك قام الكيان بقتله، وهو ما يُثبت مضاءة سلاح القلم في هزّ قلاع العدو!.
غسان كنفاني هو الكاتب والسياسي, المناضل الذي جعل من قلمه أداة نضالية طيّعة في تصوير معاناة شعبه، وتحريضه لاستعادة حقوقه من خلال القيام بالثورة ضد العدو. لم يرتضِ غسان بالأفكار السائدة أو المألوفة التي صورّت الفلسطينيين في الخمسينيات وبداية الستينيات, كشعبٍ مسكين مغلوب على أمره،وفقط يحتاج إلى تقديم المساعدات إليه! غسان كنفاني رفض هذا الواقع وقام بعملية تحريض واسعة لأبناء شعبه من خلال مؤلفاته:
ففي روايته"عائد إلى حيفا" وصف فيها رحلة اللجوء من حيفا إلى مدينة عكا الفلسطينية, وكان طفلاً آنذاك لكنه وعى طبيعة الارتحال والتهجير. في رواية"أرض البرتقال الحزين" تطرق كنفاني إلى الترحال من عكا إلى الشتات، وفي رواية"سرير رقم 12" يتطرق إلى الذات في تصوير معاناة الشعب من خلال المرض العضوي والحنين إلى الوطن. في رائعته"رجال في الشمس" تطرق كنفاني إلى حياة اللجوء الفلسطيني في الكويت. وقام بتصوير صعوبة الرحلة إليها من خلال التهريب, ولو في خزان نقل المياه، كما صور عودته إلى دمشق في سيارة مهلهلة، صوّر الحالة التي كان عليها الفلسطينيون في تلك الحقبة, وكان عنوانها:البحث عن لقمة العيش, مثبتاً أنهم ضلوا الطريق. في ذات الرواية تساءل كنفاني عن الفلسطينيين الذين ماتوا في الخزّان قائلاً: لماذا لم يقرعوا جدران الخزّان؟ هذه الصرخة هي رفض للواقع, وتبني لما يجب أن يكون عليه الفلسطينيون من ثورة تتجه لاستعادة الحق والعودة إلى الوطن.
في القصة القصيرة: أبدع كنفاني أيضاً, ففي قصة "ما تبقى لكم" والتي تعتبر مكملة لرجال في الشمس يكتشف البطل طريق القضية من خلال الثورة المسلحة، ولذلك فإن هذه القصة تعتبر استشرافية تنبؤية لما يفترض أن يكون عليه الحال الفلسطيني. بالفعل تفجرت الثورة في منتصف الستينيات, وعلى ذلك قِسْ. غسان كنفاني كتب أعمالاً لم تكتمل، وهو أول من عرّف الفلسطينيين والعرب والعالم بشعراء وأدباء الأرض المحتلة في عام 1948، وهو أول من كتب دراسة عن ثورة 1936 في فلسطين. كنفاني هو أول من كتب دراسة عن الأدب والأدباء الصهاينة، ولذلك فإن لغسان قصب السبق في العديد من القضايا. لم يفصل غسان كنفاني بين الأدب والسياسة، فكان مناضلاً سياسياً من خلال عضويته في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ومن خلال رئاسته للمكتب الإعلامي فيها، ورئاسته لتحرير مجلة الهدف الناطقة باسم الجبهة.
كتب غسان كنفاني في جريدة المحرر اللبنانية من قبل, وكتاباته كانت جزءاً من شخصيته الوطنية، كتب باسمه الصريح تارةً، وتارةً أخرى بالاسم الحركي "فارس فارس، ومقالاته بهذا الاسم مجموعة في كتاب,عندما تقرأها تتضح لك نبوءته لما نعيشه حالياً من محن. تطرق غسان كنفاني من خلال أعماله ومن خلال مقالاته في الهدف إلى العديد من الثغرات والمظاهر السلبية في الثورة الفلسطينية، لم تنصّب كتاباته على هذا الحقل فقط، وإنما يضيف إلى ذلك كيفية الخروج من هذه المظاهر( المآزق) إلى الطريق الصحيح.
من أقوال غسان كنفاني: ما كتبه عن الكفاح المسلح ومن أنه "لن يكون مجدياً إلا إذا كان كفاح مواطنين حُرّرت إرادتهم وعقولهم". كما دعا إلى"المزاوجة بين النظرية والممارسة". وعى غسان كنفاني حقيقة الدولة الصهيونية والحدود العليا التي قد تصل إليه في التسوية، لذلك رفض ما يسمى بالدولة المستقلة أو الحل المرحلي. لم يكن غسان كنفاني منظّراً من برج عاجي،بل عاش حياة البساطة والعمل مع أبناء شعبه في المخيمات.كان مثقفاً عضوياً بامتياز, ارتبط بجماهير شعبه وعبّر عن قضاياها.لم يعش غسان كنفاني فترة طويلة بل مات في الثلاثينيات , وبالفعل يستغرب الإنسان هذا الكم الهائل من النتاج للمبدع في عمرٍ قصير.
لو قُدِّر لغسان كنفاني وكافة شهداء الشعب الفلسطيني الأبرار أن يعودوا إلى الحياة في الوقت الراهن, لاستغربوا ما آلت إليه الثورة الفلسطينية بعد كل هذه السنوات، وبعد كل هذا الكم الهائل من التضحيات: انقسام سياسي وجغرافي بين أبناء الوطن الواحد في ظل الاحتلال, نتيجة البحث عن المصالح الذاتية والتنظيمية باعتبارها الأولوية قبل القضية الوطنية والمشروع الوطني، ولا أمل حاليا في أية مصالحة. استيطان صهيوني يأكل الأخضر واليابس من الأرض الفلسطينية.صلف وتغوّل وعنجهية صهيونية ليس لها مثيل.غسان كم نحن بحاجة إليك وإلى أمثالك في وقتنا الراهن.كم نفتقد الى كتاباتك . كم نفتقد الى استشرافك. عزاؤنا : أنك ما زلت ماثلا بيننا ..أيها الفلسطيني العربي الإنساني الجميل .