باحتفال الشعب المصري بافتتاح قناة السويس الجديدة يوم أمس، يدشن المصريون بذلك مرحلة تاريخية جديدة مقدمين خلالها أضخم مشروعاتهم القومية بعد حوالي قرن ونصف من الزمان من مشروع حفر القناة الأولى التي أصبحت ملكًا للشعب المصري بقرار التأميم الذي أصدره الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
اليوم يعيد الشعب المصري وهو يحتفل بهذا الإنجاز الضخم كتابة تاريخ نضاله مع معترك الحياة المعيشية، ويقدم شهادة جديدة للتاريخ عن كفاحه من أجل الحفاظ على حب أزلي جمع بينه وبين أرض، من شدة هيامه وعشقه لها أطلق عليها اسم "أُم الدنيا"، وليكتب سطرًا جديدًا في إثباتاته الوجدانية الممهورة بعبارته الشهيرة "ما تقولش إيه إدتنا مصر، قول إيه إدينا مصر" الضاربة في عمق المحلية المصرية الدارجة، والمتجذرة في الثقافة المصرية لتلهم الآخرين وتلهب المشاعر في حب الوطن وقيمته وتقديم النفس والمال رخيصين في حق الوطن وفدائه.
وحين نقول ذلك، ليس قفزًا على الحقائق، وليس في معرض إبداء المجاملات، فالعناوين الوطنية التي ترجمها المصريون تجاه دولتهم، كتعبير ودليل لا يقبلان الشك على التغيير الذي أحدثوه في الخامس والعشرين من يناير، متطلعين ـ رغم التحديات الجسام التي مروا ويمرون بها ـ إلى بناء مستقبل أفضل من ماضيهم خاصة حقبة ما قبل الخامس والعشرين من يناير التي شابها العديد من المنعرجات والانتكاسات لم تقتصر آثارها السلبية على المواطن المصري البسيط، وإنما تعدت إلى الوضع العربي بأكمله. وأول هذه العناوين الوطنية الإقدام المنقطع النظير على جمع التمويل اللازم لبدء أعمال حفر قناة السويس الجديدة عن طريق طرح أسهم للقناة في صورة "شهادات استثمار قناة السويس"، قبل نحو عام من الآن، وثانيها حجم إسهام المصريين فيها الذي بلغ 64 مليار جنيه (بما يعادل 8.3 مليار دولار أميركي)، واستخدمت حصيلة الطرح في أعمال البناء. أما ثالث العناوين فهو الانتهاء من القناة الجديدة عقب عام واحد فقط، بعد أن كان من المقرر أن ينتهي عقب ثلاث سنوات، بطول بلغ ٧٢ كيلومترًا منها ٣٥ كيلومترًا حفرًا جافًّا، و٣٥ كيلومترًا أعمال تكريك في المياه، في وقت قياسي، في حين يبلغ طول القناة الأصلية الواصلة بين البحر الأبيض المتوسط شمالًا إلى البحر الأحمر جنوبًا، 193 كيلومترًا. بخلاف قناة السويس الأولى التي استغرق حفرها ١٠ سنوات، شارك فيها مليون نسمة من أصل ٤ ملايين ونصف المليون نسمة توفي فيها ١٢٠ ألف شخص.
وتعد قناة السويس من أهم المجاري الملاحية في حركة التجارة الدولية، ومن هنا يبدو الاهتمام العالمي بما حققته مصر بإنجاز مشروع القناة الجديدة، والتي ستسهم في زيادة حجم التجارة العالمية، حيث يهدف المشروع إلى زيادة القدرة الاستيعابية لمرور السفن في القناة لمواجهة النمو المتوقع لحجم التجارة العالمية في المستقبل، حيث يتوقع أن تسهم القناة الجديدة في نمو التجارة العالمية بنسبة ثلاثة في المئة، فضلًا عن دور القناة في دفع عجلة الاقتصاد المصري، وإسهامها في زيادة الدخل القومي المصري من العملة الصعبة، فزيادة القدرة الاستيعابية للقناة يعني زيادة العائد منها ليصل إلى 11 مليار دولار، مقارنة بالعائد الحالي للقناة الأولى الذي يصل إلى 5.3 مليار دولار؛ أي أن نسبة العائد ستزيد بنسبة مئة في المئة، بالإضافة إلى ما ستوفره القناة من فرص عمل تقدر أن تصل إلى مليون ونصف مليون فرصة عمل.
على الجانب السياسي، فإن مشروع قناة السويس الجديدة جاء ليبعث رسائل عديدة داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا بأن الدولة المصرية دولة مستقرة ومتماسكة وقادرة على الاعتماد على ذاتها، ودولة فاعلة ومؤثرة على الدوام وفي جميع الصعد والمستويات، فهنيئًا للشعب المصري إنجازهم القومي الإعجازي هذا، فمصر تستحق أكثر فهي بيضة القبان.