[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/zohair.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]زهير ماجد [/author]
لكل بيت باب خارجي يغلقه على العالم في الخارج، انه الاطمئنان الى ان الاتصال بهذا البيت لا محل له سوى ان يرن هاتف ارضي او خلوي .. الكلام البعيد فقط مسموح في معركة الحفاظ على الذات، وكلنا نعرف مدى اهمية ان يكون هنالك باب يفصل بيته عن كل شاردة وواردة، وان يربج دائما معركة الاستقلالية .. هو الاحساس بالحرية، هكذا التصور.
ولأن لكل بيت بابه ذاك، فبالتالي له حرمته كما يقولون، وقدسية مابداخله .. فما يجري بين جدرانه حكر على الاهل والاولاد .. الحوارات لها خصوصية، والتصرفات لها خصوصية، وطبيعة الأكل والشراب هندستها من عالم البيت، كل صغيرة وكبيرة من اختصاصه وحده. فلا من يسمع او يدري ماذا يجري في هذا العالم الصغير، في تلك المساحات والتقاطعات الغرفية التي تشكل حدود هذا البيت.
لعلنا حين نردد أن في البيوت اسرارا، فكأنما نرسم الشكل الطبيعي لمنزل مغلق على ذاته، وكل المنازل مغلقة بحيطان تطل منها شبابيك هي ايضا مغلقة ومحجوبة بستائر اضافية لا تضيف عليها بهجة ورونقا فقط كما يعتقد صاحب البيت او صاحبته، بل زيادة في الانغلاق والاطمئنان.
انه عالم الأسرار إذن، بعضنا يرى في اسراره المودة المتوخاة، اذ لا قيمة للحياة بدون اسرار متبادلة بعيدة عن العالم ،حتى كأن العالم الخارجي هو سبب عزلة المرء الى بيته، وكلما تقدم المرء في السن زاد من وتيرة التصاقة بحميمية بيته التي هي مرتع أسراره .. اعرف رجلا كان يرفض اي كلام مع آخر ، فكان يحادث حيطانه بما يجري معه ، يشكو اليها، وتجده احيانا يسمتع وكأن ردا ما حصل على اسئلته، وذلك تهربا من ان يحادث آخر.
نظام حياتنا يستأهل ان نسمي الاشياء باسمائها، ولأننا نخاف العالم، بل نخاف شيوع السر المنزلي، نتمسك بضبط الابواب والشبابيك وبالستائر، ونرجو ان لاتصعد الاصوات منها، ان تظل مقبورة بها، فالبيت مقبرة العلاقات الزوجية، والاسرية بشكل عام. انه المكان الذي لايجب ان تكون له امتدادات خارج امتاره القليلة، وان يظل معزولا عن الناس، وان لايكون للناس مطرح فيه.
منذ ان انشأ الانسان بيتا، بعدما عاش في الكهوف والبراري وعلى الاشجار، وهو يجدد فيه ويقدم له خيرة مايملك كي يأنس بسكناه. في البدء كان تفكير المرء دفاعيا، اي كيف يقطن مكانا له امكانياته التي من خلالها يدافع عن نفسه ، ولهذا نجد القلاع مزودة بافكار القتال والصراع والهجوم والدفاع، والقلاع عادة مأوى للحماية وللسكن ايضا .. وحينما وضع رجله داخل نظام جديد اسمه البيت بغرف متعددة كان عقله قد تمكن من الازادة في حاجته، لكنه مع ذلك وجد المبرر بوجود اسرة تحتاج لهذه الغرف المتعددة.
ولأن البيت ملكيته ، فكل مافيه ملك له ايضا، تلك هي مشاعر المرء على ما اعتقد. وحين بدأ يزيد في شكله الداخلي، كان يفكر بحاجته الملحة الى الاشياء الضرورية الى ان صار له ان وصل الى ماوصل اليه ، قصر او شبه قصر، عمارة بشقق ، وكل شقة لها صاحبها واسرتها .. تعددت اشكال البيوت ،كما تعددت هندستها واشكالها ، لكنها جميعا اتخذت من الباب عنوانا للحماية ، للدفاع عن الوجود الذاتي، للاحساس بالانتقال من العالم الخارجي الى حضن مغلق على الذات تفوح منه رائحة انسانيته وخصوصيته، ويشعر فيه انه ضمن مملكة لها حدود وسيطرة كاملة ,, انه عالم اطمئنان بديع.
اليوم نرى المدن الحديثة فننسى كيف كانت عليه قبل الآن، وما قبله ايضا .. تفكرنا تلك العمارات الشاهقة بقدرة العقل البشري على الارتفاع بدون اخطار، بل ودون شعور هو تحد للاخطار في حقيقته. ولذلك احب المدن التي تخلو من الابنية ذات الارتفاعات الشاهقة لأنها تقتل روح التوازن ، تبعث على الملل، واحيانا على الخوف.
عمارات اليوم خليط من الناس الذين لاتجمعهم تجانس ولا افكار ولا مباديء ولا قرارات موحدة، اما من استقل في منزل خاص فقد وجد ضالته، اختار الصمت المحيط بهوائه، بل اختار ان يعالج ثرثرة الشارع بوحدة منتقاة. لايمكن لمن اختار قصرا او فيللا او بيتا عاديا لكن منفردا، الا واراد الانعزال عن هم الناس وعزل الناس عن همومه، لابل شراء السكون وسط ضجيج آخر. وكم هو جميل ان تكسب ذاتك في محيط غارق في البحث عن ذاتيات.
ونخرج الى البيت باسراره، كل انسان له سره الذي يحجم امكانياته وعمله، وافكاره. وطبيعة اسرارنا اننا نظن ان الآخر لايهتم بنا، فيما الانسان لايهتم الا بالانسان .. طبيعة بشرية عاشها البني آدم وسيظل يعيشها، وخصوصا في عالم الاقارب الذي يسمح للقريب ان يقترب من رائحة السر اذا لم يتمكن منه. لاتستطيع ان تقول للقريب اغرب عن وجهي او ان لاتستقبله ، فتلك من الاهانات التي لها ثمن اجتماعي وخيم.
ولأن في كل بيت سره، فيجب احترامه وتقديسه، وانا مصر اصرارا لارجوع عنه، ان السر اذا شاع حتى بين اثنين لايصبح سرا، مكان السر هو الذات، والذات ايضا مقبرته، الا يقول المثل العامي " سرك في بئر " ، لعله تعبير حيوي، لكنه دائما يتجاوز حاله ، فيقال ذلك السر ويشاع ويصبح مادة اما للابتزاز او اما للتندر .. عندما اشيع سر حب قيس لليلى تحولت العلاقة بينهما ، وهي لم تكن قد تحققت بالفعل ، ان تحولت الى تندر وتبادل اتهامات بين العائلتين على ماقاله قيس من شعر في حبيبته .
نحن نرى الناس بضوابطها الاجتماعية تتحرك في المقهى وفي الشارع وفي المحلات العامة وفي السوبر ماركت وفي المول وفي كل الامكانة ، نراها متحابة، كأن نرى زوجين وقد اشاعا على مكان وجودهما طبيعة وفاق يحسدان عليها، لكن من يؤكد لنا انهما كذلك في البيت، واحيانا يكونان اكثر ودا مما في الشارع حيث المحرمات تمنع اظهار العاطفة على سجيتها.
كل منا يلبس شخصا آخر حين ينطلق الى عمله او جلساته، ربما هو فرح، فيما غاضب في البيت وقد يكون العكس، وربما هو بخيل في جلساته كريم في البيت والعكس ايضا، كل منا يخبيء شخصيات في شخصه، بعضها تخرج من وجهه ، وبعضها من تصرفاته وبعضها في الحالتين معا . الطب النفسي الحديث يطلق اول جملة على شخص مصاب بالكآبة بانه يضع قناعا على وجهه لاخفاء حقيقة مرضه امام الناس .. كلنا نخاف الناس ، ونخاف المجتمع ، وكما يقول جاب بول سارتر الآخرون هم الجحيم ، كانما هؤلاء الاخرون هم في حفيفة الأمر البعبع الذي يخيفنا ويشغل بالنا ونظل نفكر فيه اكثر من تفكيرنا باي مستوى آخر.
في كل بيت اذن سر او اسرار تعيش داخل جدرانه ، قد تنفجر فتملأ العالم الخارجي، وقد تموت بداخل البيت وتجد قبرها فيه . اجمل الاسرار هي التي لاتشاع، واحلاها هي التي نحولها من مشكلة الى حل ، واجملها تلك التي تترك للزمن كونه الاقدر على ضبط كل اختلاف .. ولأن الاختلاف طبيعي بين الرجل والمرأة ، وهنا يجب ان نميز بين الاختلاف والخلاف ، فان من طبيعة العلاقة ان تظل متوازنة وان يتحدد لها اطار المعاملة المتوازنة .. فالرجل جاء من اسرة لها تربيتها الخاصة وثقافتها وطبيعتها ، والمرأة كذلك ، فجأة اتحدا ، ارادا تكوين حياة جديدة واسرة هي حلم كل رجل وأمرأة ، هي أمل كل انسان على ظهر الارض .. من طبيعة الحياة انها تتوارث المسير والمصير ، كل بشري مكتوب عليه ان يصبح ابا ، وكل انثى ان تصبح أما ، ولقد ادرك المجتمع عندما ارتقى ان يضع لها قوانين لكنه لم يستطع ان يخترق اسرار البيوت ، لأن لكل بيت عالمه الذي لم يصل القانون بعد لاختراقه .
انا أؤمن بأن الحياة السلسة هي تلك التي عندما يغلق باب البيت الخارجي، تتحول الى فضاء ذاتي فيه كل الممكنات .. ويجب ان يتقبل المرء الشخصيات المتركزة في الآخر، وهي مسألة التربية التي انحدر منها، والمفاهيم التي شربها، ونظام الحياة الذي خضع له طفلا وفتى وشابا.
البيوت اذن اسرار ، سواء اعترفنا او لم نعترف، كان نزار قباني وهو كما كتب من الشعر الغزلي اصبح في رأي الجميع زير نساء، لكنه في حقيقة الأمر كان عكس ذلك وكانت حياته الخاصة عكس ماكتبه .. اما عبد الحليم حافظ فكان المرض قد غير في طبيعته، فتراه لاينام اثناء الليل خوفا من حدوث نزيف، وعندما ينام اثناء النهار كان يطلب من مرافقه ان يراقبه باستمرار، واما حياته العاطفية وهو المغني الرومانسي فكانت ايضا جافة عكس مايتصور المرء عنه، ومع ذلك كان يطل على الناس بتلك الاطلالة المفرحة .. ومؤخرا اخبرت ان احد الفنانين الكبار بات يخاف النوم اثناء الليل خوفا من الموت .. واذا فتحنا باب الاسرار عن كثيرين فنحتاج الى اكثر من هذا المقال، فلا يوجد امريء على سطح الارض ، مهما كان نوع عمله او اتجاهه ، الا وكانت له اسراره وقضاياه واهتماماته المختلفة .. نحن وسط عالم من البشر الذي يتوزع افكارا وتناقضات واحلام وخيال. ونحن في النهاية بشر، اي فينا جميعا كل التناقضات التي هي من اصل التكوين الانساني، منذ ان خلقه الله على هذه الصورة.. فكلنا يحب ويكره ، ويحلم ويتخيل ويحقق، يهرب ويتقدم ، يضحك ويبكي، يخاف ويتشجع ... الخ.
في البيوت اسرار، ربما قد تخترقها هذه المقالة، لكنها لن تضيف على اسرار البيوت سوى انها قالت مايجب ان يقال في حضرة البيت الذي يريد عالما سليما مليئا بالدفء مشعا في طلته على المجتمع.
ومع ذلك اؤمن بان الانسان مختلف بين الواحد والآخر، وينعكس ذلك على منزله وعلى حياته وعلى علاقاته وعلى مطاليبه . وفي النهاية تزيد الخبرة من فهم المرء لمنزله وللعالم الخارجي، فاما ينسجم او يبتعد ..!