الدين وعلم النفس النظرة السلبية لهذا العلم وإن أخذت في التراجع إلا أن مكانة ومعرفة أهمية هذا العلم ما زالت دون الحد المفترض، وخصوصا إذا ما كان الأمر يتعلق باقترانه بالدين، فالعديد من الناس ما زال ينظر إلى علم النفس على أنه منافس لعلم الشرع، فيرى البعض أننا كمسلمين ينبغي أن نقتصر على القرآن الكريم وحده وأن لجوءنا لعلم النفس ما هو إلى تراجع في اهتمامنا واعتمادنا على القرآن الكريم، وكم سمعنا من البعض عبارة تتكرر مرارا (المؤمن لا يصاب بالاضطرابات النفسية).
إن هذه النظرة القاصرة ما هي إلى نتاج لجهل كثير من الناس بحقيقة هذا العلم واختصاصاته،وهذا الموضوع يحتاج في معالجته لبسط كبير، إلا أنني أود التطرق إليه في هذا المقال من حيث الهدف واختصاص هذا العلم، فعلم النفس يهتم بالتعامل مع سلوك الإنسان الداخلي وما يشمله من تفكير وانفعالات، والخارجي الظاهر المشتمل على تصرفات وسلوكيات، من حيث تفسيره ومعرفة أسراره و والتنبؤ بالسلوك وسبل التأثير عليه، وإذا أردنا أن نعرف ما هو هدف الشرع، فهو بكل بساطة السعي لاستقامة سلوك الإنسان وفق شرع الله، فهو يتعامل مع السلوك الداخلي و الخارجي كذلك، إذا من الممكن أن نقول بإن كلا من علم الشرع وعلم النفس يهتم ويهدف إلى التأثير على السلوك الداخلي والخارجي للإنسان، فالهدف إذا مشترك.
إلا أن القرآن الكريم بما احتواه من تشريعات ربانية ليس كتابا مختصا في علم النفس وإن تطرق إلى النفس الإنسانية، كما أنه ليس أنه ليس كتاب فيزياء أو طب وإن تطرق لهذه الأمور في ثناياه، وهذا من حكمة الله تعالى حيث ترك المجال للإنسان في البحث والنظر لسبر أغوار هذا الوجود ومعرفة نواميسه لنستنتج في النهاية بعد البحث والتقصي مطابقة نواميس الوجود للتشريعات الربانية.
لقد بذل علماء النفس في العقدين الماضيين جهودا جبارة في محاولة معرفة أسرار النفس الإنسانية وقد توصلوا لمعرفة جوانب كثيرة منها، واستطاعوا من خلالها تسخير إمكانيات هذا الإنسان ومعالجة الكثير من مشكلاته استنادا إلى ما وصلوا إليه من اكتشافات ونتائج، ونحن كمسلمين وإن كان يؤسفنا ألا نكون السباقين إلى هذه الاكتشافات والنتائج – كما هو الحال في شتى العلوم العصرية - إلا أنها في النهاية حكمة ليس لنا إلا الأخذ بها والاستفادة منها تطبيقا لتوجيهات القرآن والسنة حيث يقول الله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها).
إننا عندما نجول ببصرنا وننظر إلى الدعاة على اختلافهم نلحظ بوضوح إلى الفرق في الأسلوب والطرح والتأثير بين من يستفيد من العلوم الحديثة لا سيما علم النفس في معالجته لمشكلات الناس واحتياجاتهم، فطرح الداعية للحكم الشرعي بشكل مجرد يختلف عن طرحه معضدا بذكر نواميس هذه النفس، فأن تذكر بأن الصلاة تخفف عن الإنسان الهموم مصداقا لقول النبي – صلى الله عليه وسلم - :(أرحنا بها يا بلال) بشكل مجرد يختلف عنه عندما تعضد هذا بذكر تأثيراها على عمل العقل من حيث كيفية تأثيرها على استرخائه ومعالجتها للمخاوف والضغوط النفسية، فتزيد القناعة من ناحية وتحرص على الخشوع فيها كونه سر التأثير، كما أن أخذ الداعية بهذا العلم يفتح له مجالات شتى في ابتكار برامج من شأنها ملائمة احتياجات الإنسان، فعلى سبيل المثال قد يحتاج الداعية لبرنامج يزيل أو يخفف عنه مشكلة الخجل أو القلق الاجتماعي، وهي مشكلة منتشرة قد تحد من عمل العديد منا وكفاءتهم، فعلم النفس قد قطع شوطا كبيرا في هذا المجال. فمن المشكلات التي يقع فيها بعض الدعاة أن طرحهم يكون منبتا عن حاجات الناس ولغة العصر، فيقوم بعرض الأمر الشرعي دون البحث في كيفية تطبيقه بطريقة توائم ما تحتاجه النفس الإنسانية، وهذا الأمر يجعل طرحه يتصف بالتقليد والبرود.
أن معرفتنا العميقة لعلم النفس يفسر لنا العديد من الحكم وراء الكثير من التشريعات الربانية وكيف أنها متناغمة ومنسجمة مع النفس الإنسانية والتطبيق الأمثل للأوامر الشرعية حيث لا تناقض ولا تنافر ولا تنافس بل هو تكامل وتعاضد، ويجعلنا ندرك بعمق كون القرآن الكريم نعمة من عند الله تعالى كم قال سبحانه: "وأتممت عليكم نعمتى"، كما أن انسجام التشريع الرباني ومكونات النفس الإنسانية يزيد من إيماننا بأن هذا التشريع من لدن خالق الإنسان ومكونه.

خالد بن سعيد بن شحلوب الريامي