تعيش بين جنبات المتحف المصري

مومياوات ملوك مصر القدماء وفراعنتها تعيد لذاكرة الزائر أساطير الشرق وسحره الخلاب

القطع الأثرية دليل مادي ملموس على عظم الحضارات التي تعاقبت عليها

القاهرة ـ (العمانية)
القاهرة .. مدينة السحر والجمال ..هبة النيل .. تحمل بين طياتها الكثير من المفارقات .. كما تحمل بين جنباتها متحفاً عريقاً، يعد احد اكبر متاحف العالم بعد متاحف بريطانيا وفرنسا.
يضم هذا المتحف الكثير من الكنوز والنفائس التي لا تقدر بثمن كما يضم أسراراً كثيرة وحكايا لأناس عاشوا في أزمنة غابرة وترقد فيه مومياوات ملوك مصر القدماء وفراعنتها مع ما تحمله من هيبة وغموض يغذي الخيال لدى زائر المتحف ليعيد الى ذاكرته قصص ألف ليلة وليلة وأساطير الشرق وسحره الخلاب.
ويقدم هذا المتحف عبر مخزون هائل يبلغ أكثر من 150 ألف قطعة أثرية ترجع إلى عصور فرعونية مختلفة دليلاً مادياً ملموساً على عظم الحضارات التي تعاقبت على مصر إضافة الى كونها مراجع تاريخية ملموسة للباحثين على اختلاف مجالاتهم ومدرسة في كيفية العناية بالآثار القديمة والحفاظ عليها من التلف.
المتحف المصري كما يقال عنه انه احد اهم البوابات التي يعبر منها الزائر او الباحث إلى عالم مصر القديمة من خلال اثار اثرت أن تقاوم الفناء وتجاوزت مكونها المادي الى معنى دائم يحكي واحدة من أعظم قصص التاريخ الإنساني بفنونها وثقافتها ودياناتها وقوتها ووقائعها وقيمها المجتمعية.
المتحف المصري ينفرد عن غيره في العالم كونه يغطي آثارالحضارة المصرية الفرعونية فقط كما أنه أول متحف في العالم صُمم ونُفذ منذ البداية ليؤدي وظيفة المتحف عكس ما كان الحال عليه في أوروبا حيث كان يتم تحويل قصور وبيوت الأمراء والنبلاء إلى متاحف.
ومع الاهتمام العالمي الكبير الذي حظي به فك رموز (حجر رشيد) على يد العالم الفرنسي شامبليون والذي كان بمثابة المفتاح لأعظم كنوز التاريخ.
بدأ الاهتمام بإنشاء متاحف تضم الآثار المصرية وكانت النواة الأولى للمتحف ببيت صغير عند بركة الأزبكية القديمة "وسط القاهرة" حيث أمر محمد علي باشا عام 1835م بتسجيل الآثار المصرية الثابتة ونقل الآثار القيمة له وسمي بمتحف الأزبكية وأشرف عليه رفاعة الطهطاوي.
قبل ذلك التاريخ كانت القنصليات الأجنبية ترسل الآثار المصرية إلى أوروبا وقد ازدهرت تجارة هذه الآثار خلال القرن التاسع عشر، لكن رفاعة الطهطاوي تمكن من إصدار قرار بمنع التهريب والإتجار في الآثار المصرية إلى الخارج وبوفاة محمد على باشا عام 1849م عادت الأمور إلى سابق عهدها.
وفي عام 1858م قام الخديوي سعيد بإنشاء اول هيئة للآثار المصرية وعيّن "اوجست مارييت" كاول رئيس لها وبدأ مارييت عمله بأن وضع اول برنامج يهدف الى توثيق وتسجيل كل الاكتشافات واعمال التنقيب والحفر وأحيا مشروع محمد علي لإنشاء متحف رسمي وقام بتجديد مسجد قديم بمنطقة بولاق لاستخدامه كمتحف مؤقت وقام بتجميع العديد من القطع الاثرية من عدة مناطق من مصر. ومارييت هذا هو موفد من قبل الحكومة الفرنسية للبحث عن بعض الآثار والمخطوطات في مصر جاء اليها عام 1850 وعكف على التنقيب عن آثار (سقارة)، وأجرى حفائرعظيمة حتى كشف مدفن العجول (السرابيوم) وكان يعمل في التنقيب منفرداً دون أن تكون له بالحكومة صلة رسمية. وقد يكون الاكتشاف الذي حققه اوجيت مارييت عندما اكتشف مقبرة كنوز الملكة (اياح حتب) بمنطقة (ذراع ابو النجا) هو بمثابة العامل المؤثر الرئيسي على الخديوي سعيد عندما اصابته الدهشة من الاكتشاف فأصدر أوامره الفورية لبناء اول متحف مصري بمنطقة (بولاق) وقد تم افتتاح هذا المتحف في عصر الخديوي اسماعيل. وقد تسبب فيضان نهر النيل الذي حدث في عام 1878 في إغراق متحف بولاق، المتحف الحلم الذي طال انتظاره من قبل عشاق الحضارة المصرية ممن سعوا جاهدين ليكون انشاؤه امرا واقعا، فتقدم مارييت بطلب الى السلطات المصرية للبحث عن موقع افضل ويكون مقرا دائما للمتحف. بعد ذلك بعام واحد عاد رفاعة الطهطاوي من باريس بعد ان استكمل دراسته هناك حاملا معه فلسلفة جديدة تستهدف تحسين الوعي الوطني لدى المصريين واحياء عنصر التقدير والاهتمام بآثارهم ونتيجة لذلك نجح في ايقاظ هاجس حب الاثار والمحافظة عليها لدى العديد من الدارسين الشبان. في 1881 م توفي مارييت وقبل وفاته كتب يقول "لن يمنح أي اثر مصري لأي قوى خارجية لا تشكل جزءا من الأرض المصرية" وجاء جاستون ماسبيرو خلفا لمارييت كرئيس لهيئة الاثار المصرية. ومع مضي الزمن اصبح متحف بولاق مزدحماً، فالقطع الاثرية به مخزنة بجوار الجدران ثم تم وضعها داخل قوارب في صعيد مصر بعد التنقيب عنها واكتشافها، اما التوابيت فكان يتم تخزينها الواحد تلو الاخر. أصبح الموقف باعثا لليأس، لذا قام الخديوي بتخصيص أحد قصوره الموجودة بالجيزة ليكون مقرا لإنشاء المتحف الجديد. وقد افتتح المتحف الجديد بالجيزة لكنه لم يكن كبيرا بدرجة كافية وهنا قرر الخديوي توفيق بناء متحف جديد بالقاهرة وأعلن عن مسابقة دولية لتقديم افضل الخطط المعمارية فاز بها المعماري الفرنسي "مارسيل دور نونج" في عام 1890 م وافتتح المتحف في 1902 بعد ان نقلت اليه القطع الاثرية من قصر الجيزة ومتحف بولاق والأزبكية باستخدام 5000 صندوق خشبي. وضعت كل القطع الاثرية في مكانها. وفي داخل احدى باحات المتحف الجديد وقف هناك ذات مرة احمد باشا كمال الذي يعد اول عالم اثار مصري يعمل في هدوء وصمت على ترميم القطع الاثرية من اجل تحطيم الحواجز التي كانت تمثل عائقا بين المصريين واثارهم. وفي الثالث عشر من يوليو من نفس عام افتتاح المتحف نقلت مقبرة مارييت لتستقر في حديقة المتحف الجديد وكانت وصيته ان يسجى جسده بالقرب من القطع الفنية القديمة التي جاهد طوال حياته من اجل تجميعها وحمايتها.
المتحف الجديد الذي لا تعكس واجهاته الخارجية أي أثر مصري في فن المعمار تم تشييده على طراز العمارة الكلاسيكية اليونانية الرومانية أما واجهة المتحف الرئيسية فهي على الطراز الفرنسي بعقود دائرية، تزينها لوحات رخامية لأهم وأشهر علماء الآثار في العالم، وعلى جانبي باب الدخول الخشبي تمثالان كبيران من الحصى لامرأتين على الطراز الروماني، ولكن برؤوس فرعونية. أما في الداخل فيظهر التأثير الفرعوني جلياً فالقاعات تشبه المقصورات التي كانت موجودة في المعابد القديمة والغرف تشبه الى حد كبير الغرف الموجودة في معبد ادفو والقاعات الداخلية تبدو فسيحة والجدران عالية. ويدخل الضوء الطبيعي خلال ألواح الزجاج على السقف ومن الشبابيك الموجودة بالدور الأرضي. أما ردهة المتحف الوسطى فهي أعلى جزء من الداخل حيث عرضت فيها الآثار مثلما كانت موجودة في المعابد القديمة. وقد روعي في المبنى امكانية ضم توسعات مستقبلية وان يتناسب مع متطلبات تسهيل حركة الزائرين من قاعة إلى أخرى. ويقع المتحف في الجانب الشمالي من ميدان التحرير وسط مدينة القاهرة يحوي مجموعة أثرية تعبر عن كل مراحل التاريخ المصري القديم تربو على 150 ألف قطعة وأهمها المجموعات الاثرية التي تم العثور عليها في مقابر الملوك والحاشية الملكية للأسرة الوسطى في دهشور عام 1894 وقد قسم بناء على المجموعات الموجودة والتي تمثل مساراً زمنياً للتاريخ الانساني وهي مجموعة عصور ما قبل التاريخ وتمثل النتاج الحضاري للإنسان المصري قبل معرفة الكتابة والذي استقر في أماكن كثيرة في مصر في شمالها ووسطها وجنوبها. وتتضمن المجموعة أنواعا مختلفة من الفخار وأدوات الزينة وأدوات الصيد ومتطلبات الحياة اليومية. تليها مجموعة عصر التأسيس (الأسرتان الأولى والثانية) وتمثلها صلاية نعرمر وتمثال خع سخموي والعديد من الأواني والأدوات ثم مجموعة الدولة القديمة والتي من أهمها تماثيل (زوسر وخفرع ومنكاورع وشيخ البلد والقزم سنب وبيي الأول وابنه مري أن رع) والعديد من التوابيت وتماثيل الأفراد والصور الجدارية ومجموعة الملكة (حتب حرس).
بعد ذلك تأتي مجموعة الدولة الوسطى وتضم العديد من الآثار والتي من أهمها تمثال الملك (منتوحب الثاني) ومجموعة تماثيل بعض ملوك الأسرة 12 مثل (سنوسرت الأول وامنمحات الثالث) وغيرهما، والعديد من تماثيل الأفراد والتوابيت والحلي وأدوات الحياة اليومية، وهريمات بعض أهرامات الفيوم.
ثم تاتي مجموعة الدولة الحديثة ولعل أشهر ما فيها مجموعة (توتعنخ آمون وتماثيل حتشبسوت وتحتمس الثالث ورمسيس الثاني بالإضافة إلى العجلات الحربية والبرديات والحلي ومجموعة إخناتون ولوحة إسرائيل وتمثالي أمنحتب الثالث وزوجته تي ومجموعة التمائم وأدوات الكتابة والزراعة، ثم مجموعة المومياوات الملكية التي تعرض في قاعة خاصة بها والتي افتتحت عام 1994م و أخيرا تأتي مجموعة العصور المتأخرة وتضم آثاراً متنوعة من بينها كنوز تانيس التي تمثل بعض الآثار المصنوعة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة والتي عثر عليها في مقابر بعض ملوك وملكات الأسرتين 21، 22 في صان الحجر بالإضافة إلى بعض التماثيل المهمة مثل تمثال آمون ومنتومحات وتمثال للإلهة تاورت ولوحة قرار كانوب (أبو قير) ولوحة بعنخي.
والآن وبعد مضي أكثر من 113 عاماً على انشاء المتحف المصري لا يعد هذا المتحف المرموق أكبر مستودع لآثار مصرالقديمة ومدرسة علمية في مجال الحفاظ على التراث فحسب بل تعدى ذلك ليكون مؤسسة فنية سجلاً وافياً للمنجز الحضاري والابداعي أدبا وفناً وعلماً في مصر.