سوداوية المشهد( 1 )نفتقر في فعالياتنا الأدبية وأمسياتنا الثقافية ـ إلا ما ندر ـ وفي إطار ضيق إلى أبعد الحدود ، إلى زخم التغطية الصحفية الحية ، التي تنقل للمتابع ، والمهتم بالشأن الأدبي والثقافي ، النبض الحقيقي للفعالية ، والحرارة الفعلية للأمسية ، ومدى تفاعل الحضور وتجاوبه مع المادة المقدمة .سئمنا من التغطيات الجاهزة ، والمعلبة ، والمعدة سلفا ، والمفضوحة من قبل أي قارئ يتمتع بذرة نباهة ، وقدر ضئيل من الملاحظة والتركيز.تجد الصحفي المسؤول عن تغطية الفعالية أو الأمسية ـ ولنفترض أنها أمسية شعرية يحييها ثلاثة شعراء : الشاعر ( أ ) ، والشاعر ( ب ) ، والشاعر ( ج ) ، تجده ، أي الصحفي ، يتصل بالشعراء الثلاثة ويطلب منهم تزويده بالنصوص التي سوف يقرؤونها في الأمسية ، والبيتين الأولين لقصيدتين ، ويبدأ ، بعدها ، بإعداد التغطية بتحوير بسيط للخبر النازل سلفا عن إقامة الفعالية ، وانتهى الموضوع.ما يحدث ، غالبا ، كالتالي : يقرأ الشاعر ( أ ) قصائد غير تلك القصائد التي زود بها الصحفي ( الفلتة ) ، وبعض الشعراء الخبثاء ، والمستائين من هذه المهزلة ، يتعمدونها ، بينما الشاعر ( ب ) ثمة ظروف طارئة تحول بينه وبين حضور الأمسية ، هذا الشاعر الذي قرأ قصائد في غاية الروعة ، تفاعل معها الحضور ، وصفق لها بحرارة ، وطلبت العديد من قصائده ، التي يحبها الجمهور، ويحفظها عن ظهر قلب ، حسب التغطية ، التي لم تترك واردة ولا شاردة ، طبعا !!!وهكذا تأتي التغطية في واد ، وحيثيات الفعالية وتداعياتها في واد آخر !!ألا ترون ، معي ، أنها مهزلة !! بل ، هي ، وربي أم المهازل .( 2 )نفتقر إلى معد صفحة ، يعي أهمية الدور المنوط به ، وجسامة المهمة التي يضطلع بها ، والتي يحملها على عاتقه ، يوثق علاقته بالشعراء ، ويتواصل معهم ، ويبحث عن جديدهم ، ويستطلع أراءهم ، فيما يتعلق بقضايا الشعر والساحة ، ومقترحاتهم ، التي من شأنها أن ترفد الحراك الثقافي والشعري .محررونا ، للأسف الشديد محررو قص ولصق ، يقومون بملء صفحاتهم بما تيسر ، من هنا وهناك ، وانتهى الأمر ، " وريح بالك " .( 3 )نفتقر إلى الإبداع في الإعداد للأمسيات الشعرية ، إعدادا يليق بالشعر ، ويضعه في مكانه الصحيح ، إعدادا يعطي المؤشر (الترمومتر) الايجابي لنجاح أي أمسية شعرية .ليست المسألة بتلك السهولة ، على ما يتصور الأغلب ..الاتصال بثلاثة شعراء أو أربعة أو خمسة (والعدد مرشح طبعا للزيادة !!!) ودعوتهم لإحياء أمسية ، وتمت الحكاية !!وثمة مقدم ، لا يكلف نفسه عناء ومشقة البحث عن حيثيات هؤلاء الشعراء ، ومنجزهم الشعري ، وموقعهم الإبداعي ، ليقدمهم بما يليق بقصيدتهم ، بتجربتهم ، وبهم ، برغم السبل الممهدة التي تتيحها الشبكة العالمية للمعلومات – أقول : لا يكلف نفسه سوى عناء الاتصال بكل شاعر يتوسله بيتين من قصيدة ما ، كتقليد عقيم ، ليقدمه من خلال هذين البيتين لجمهور الأمسية ، الذي يكاد في كل أمسية لا يتجاوز عدد أصابع اليد !!!(4 )نفتقر إلى متلق فاعل ، يوجه دفة الشعر ، ويسجل نفسه رقما صعبا ، من أرقام العملية الإبداعية. متلق يجيد التعامل مع النصوص الجديدة ، ولا يقنع بالمرور العابر ، والخاطف ، والانطباع المجاني ، الموجه بالآراء المسبقة ، التي تتضمخ بها الجهات . متلق يعشق الرهان ، ويكسب التحدي ، وتستفز وعيه النصوص المتمنعة ، وتحرك كوامنه وثقافته . متلق منتج ، إذا ما استعرنا لغة النقد الجديد ، يملأ البياضات ، والهوامش ، ويسبر الدلالات ، ويعيد إنتاج النص من جديد.( 5 )نفتقر إلى شعراء يخلصون لتجاربهم ، ويواصلون مسيرتهم الشعرية والإبداعية ، يؤثرون بإشعاع عطائهم ، وطاقتهم المتوثبة على التجارب الجديدة ، شعراء شديدي المراس ، لا تؤثر في مُضِيّهم الهزاتُ الخفيفة ، ولا تعيق مشاريعِهم الزلازلُ الصغيرة ، ولا يعلنون الانزواء لمجرد هزّة عابرة ، وحادثة بسيطة ، ومصادمات شخصية ، ومعطيات مادية ، وبرانية ، زائلة ، لا تقدّم ولا تؤخر .لدينا شعراء ليس لديهم أجنحة قوية ، وحقيقية ، إنما يتدرّعون بأجنحةٍ شمعيةٍ ، تذوب بمجرد الاقتراب من الشمس.شعراء لا يمتلكون نفساً طويلاً ، ولا يبحثون عن الشعر ، بقدر ما يبحثون عَمّا يجنيه الشعر ، من متاع ٍ زائل ٍ ، وزبد ٍ يذهب جفاء .أووووووووف ، لقد تبرمت نفوسُنا ، وضاقت من تكرار مأساةِ إيكاروس (1) ، بين كل فينةٍ وأخرى .الهوامش :(1) في الميثولوجيا الإغريقية : الشمس تذيب الشمع الذي كان يربط جناحي إيكاروس ، ليسقط ويلقى حتفه . حمود الحجري [email protected]