هذه الرحلة التي أقوم بها إلى (بلغاريا) هي واحدة من إحدى سلاسل الأسفار التي قمت بها إلى سائر أرجاء المعموره ، وهي الرحلة التي أعتبرها من أكثر رحلاتي تميزا كونها اخترقت المدن البلغاريه بما فيها العاصمه (صوفيا) والتي طارت شهرتها في الآفاق ، هذا الاختراق نحو تلك المدن كان عن طريق (الجبال) واصفا إياها بعين الدهشه وهي التي تمتد سلسلتها من بلغاريا إلى تركيا، كما أن قيامي بهذه الرحله لم أكن مجرد زائر عابر فقط تبهره الأشياء وتخطف بريقها بصره وإنما أتيتها رحالا ومغامرا وعدت منها ونفسي مبتهجه نحو الحديث عن جغرافية المكان ومسالكها وطبائع أهلها.
كما أنني سأورد ما كنت أدونه كل مساء على دفتر رحلاتي راغبا في اطلاع القراء على ما كنت أقوم به بعد ما زادت الرحله عمقا واتساعا، فلا يكاد القارئ يشعر بالضياع وهو يتتبع مراحل الرحله بعد ما يتنقل من منطقه إلى أخرى ذاكرا في ذلك أهل المدن التي أصلها منها ما بها قوم من المسلمين بعد ما ساجلتهم شاعرا بالامتنان والانسجام معهم.
وذلك بعد ما رأيت أنفع طريقه نحو معرفة أهل البلاد من خلال معاشرتهم ومعرفة عاداتهم وأخلاقهم وأنماط عيشهم وحقيقة طبائعهم ، لذلك في هذه الرحله طرقت أبوابا من خلال إقامتي مع عدد من العائلات في المدن التي أصلها وهي أفضل طريقة لنهل ثقافة الطرف الآخر حيث أكلت من طعام هؤلاء البسطاء بعد ما لقيت منهم كل الضيافه والتكريم وهو ما لا أجده على مائدة أي ثري.
هؤلاء البسطاء يمتازون بدماثة الأخلاق وسمو الآداب وبساطة العيش والإحساس ، هذه الخصال إذا جمعتها ستتكون لديك صورة الشعب الذي تكون في ضيافته ، وما رحلتي هذه سوى نبذه وقطوف أردت منها أن أقوم بكشفها للقارئ عن جوانب مجهوله من التي اعتاد المسافر عليها حيث إن في الأسفار فوائد جمة وأخصها بالذكر رؤية الدنيا ودرس في الأخلاق وتفقه في العقل وصحة الجسم وانشراح في الصدر.

مسار الرحلة
بدأت رحلتي من مسقط متوجها إلى صوفيا مرورا باسطنبول في تركيا ، ومن العاصمه البلغاريه ركبت حافله صغيره أقلتني إلى هاتيك الجبال باتجاه ديفين ومنها غادرتها إلى تريجراد عبر ياجودينا ومنها إلى زريبغو ، وقبل العوده أدراجي اتجاه تريجراد ومن ثم إلى فوندي باد وبعدها توجهت إلى لياسكوفو وأخيرا بلغت إلى ميراكيولوس قبل البدء برحلة العوده إلى صوفيا مرورا باسطنبول والعوده إلى أرض الوطن.

ياجودينا - تريجراد سكي
في هذه الجبال صرخت مرات عده عاتقا حريتي مستمتعا بالطبيعه بعد ما تسللت إليها مشيا وهي كحبل طويل معلق في الهواء ليس له نهايه حيث تغمرني مشاعر السعاده والثقه بالنفس نحو مواصلة اختراق المدن عبر المسارات الجبلية.
لذلك في هذه الرحله قمت بالاستغناء عما تعودت عليه في سائر رحلاتي من حمل (أدوات التخييم بدءا من الخيمه إلى كيس النوم والموقد الصغير للطهي) وبدلا من ذلك فقد توفرت لي في هذه الرحله وسائل الراحه حيث كنت ثريا في ذلك ، فأنا رحالة اجتماعي بطبعي ، وذلك بعد ما خالجني الشعور نحو الإقامه وسط العائلات أفضل كي ندخل قلوب وعقول من نقيم معهم ونكون قريبين منهم لمعرفة عاداتهم وتقاليدهم ، وهم بمثابة أهلي حيث يكفي أن تستيقظ عند الصباح لتجد فطورك وقد أعددته ربة البيت القائمه على شؤونه. خلال ترحالي هذا مررت على بلدة (ديفولسكو جيرلو) حيث سرى همس بين أهلها ، وهم ينظرون علينا نحن الغرباء ممن يسرحون ويمرقون في هذه الجبال فيما أخذت إحدى النساء وهي عجوز تثرثر في الحديث بعد ما طار لعابها من الثرثره حيث أرادت من ذلك إرشادي نحو مسار الطريق.
اجتزت العجوز مكملا رحلتي في المشي دون توقف مارا على مسجد حيث بدأ ولاء هذه المناطق للدين الإسلامي يتضح جليا إلى أن بلغت عند إحدى الفجوات الجبليه بها عدد من ينابيع المياه بعد ما أدخلوا عليها تحسينات من خلال اختراق أنبوب يخرج من أحشاء التربه وينساب منه ماء عذب في حوض خشبي من جذع الشجرة.
إن هذه الجبال تدعوك وتكرهك كي تدع الراحه والعمل وأنت تمضي هابطا تاره وصاعدا تاره أخرى حيث هذه المسالك تدور حول الجبال وتتمعج على سفحه ثم تنحدر إلى الحضيض والنفس تعمل جاهده منجدة وغائره من شدة التعب إلى أن تبلغ ذروة الهدف المنشود له وسط استنشاق نسيم خفيف ونقي بعد ما أخذتني متعة الاكتشاف أن أقف متأملا بعين الدهشه مأخوذا بالتفاصيل.
تلك التفاصيل ، كانت نحو ثمة مشهد يبدو من أول وهله عملا تشكيليا لفنان ، ولكن هي ثمة رسوبيات نحو فجوه جبل بعد ما امتزج للون الأصفر بها وهو عباره عما حملته الرياح لتصنع منها هذه اللوحه المتناسقه التي أمرق عليها.
أما عندما جاء الانفراج من هذه الجبال سرعان ما انفرجت أساريرنا على ارتياح ورضا بعد ما بلغ التعب منا أثقله حيث النفس مقسمه بين عين تجهد لترى وقلب يخفق نحو رؤية البلده حيث كان ذلك عند تخوم بلدة (تريجراد) مارا في ذلك على بعض النزل ومحجر صحي ودير للرهبان.
كان وصولي إلى مقر إقامتي عند العصر حيث أوسعنا ترحيبا بعد ما استقبلت من قبل سيدة النزل وهي امرأة مسنه هزيله الجسم تتمتع بروح فياضه تشع بنور الشمعة وهي القائمه عليه مع عائلتها حيث أخذوا حقائبي إلى غرفتي في الطابق العلوي فيما بادرتها وسألتها هل يوجد شيء ما يؤكل أو عشاء جاهز بعد ما فرغ بطني وزادي وأنهكني التعب من رحلة اليوم حيث وشح معانيها إصفرار اليأس والقنوط وأمطرت من مقلتيها عبرات تدل على عزة النفس وكرم الأخلاق قائله (ما تعودنا سوى إكرام النزيل أيها الضيف).
وبعد لحظة صمت بيننا أدارت وجهها رافعة جبهتها حيث كشفت لي تجاعيد السنين بعد ما بدت عليها ، هذا الحديث وما تلاه عمل على تفرقة الطبائع والمنازع فمنا مسارع إلى النوم ومنا المضطجع حيث يعد العشاء للنزيل سائلة عن الموعد المفضل لدي للعشاء.
فأجبتها : عند السابعة لا بأس.
كانت غرفتي في الطابق العلوي حيث سرعان ما تسللت أحاديث نزلاء النزل والتي توقظ النائم وتقطع عليه مذاهب فكره أثناء النوم حتى فغمت الأنوف بعد ما فاحت رائحة العشاء متناولا عشائي وهو سخين إلى أن فرغنا من ذلك حيث نشطت قليلا مجتمعا في ذلك بسيدة النزل للمسامره بعد ما رأيت وسمعت في نهاري منذ انطلاقي من ديفين.
كانت لحوحه في أسئلتها للغريب الذي نزل عندها حيث أخذت تسألني عن دقيق أمري وجليله قائلة: لا شك أنك غريب أيها الضيف عن الدار ولأول مره تقصد بلادنا فاصدقني من أين أنت.
قلت لها: إني من عرب عمان.
قالت: لقد سمعت بها من قبل حيث أردفت أنها أول مره تلتقي عربا.
مكملة حديثها قائله : إذن أنت مسلم.
قلت : نعم إني مسلم ففرحت بذلك.
قائلة : إنها مسلمة.
وبعد ما أصبحت محور الحوار الذي يدور بيني وبينها. بدأت أسئلتها تكثر وتنهال على سؤالا تلو الآخر حيث لا أخفي عليكم أنني أصبت بصدمه عندما تتحدث سيده مسنه عن النهضه العلميه وما وصلوا إليه بدلا من الحروب والنزاعات الطائفيه ، كما أردفت أنهم يعيشون في وئام، مسلمون ومسيحيون.
مكملة حديثها بعدها: إن تردد السياح على بلغاريا ومدنها كثير وإنهم غير معتادين على تردد العرب ، حيث قليل منهم من الرحل مشايي الجبال يزوروننا.
لذلك رأيتهم في غاية الاستغراب عندما نطقت بأني عربي.
كما أردفت قائله : إن من ضمن النزلاء خلال هذه الفتره كريمتها برفقة عائلتها وهما يقيمان في أوروبا حيث كان يتقاسمان الحديث بمعيتنا في صالة العشاء ، كانت ضحكة الابنه مجلجله عند كل حديث به طرفه وهي تضع أطراف أصابع يدها على شفتيها كي تكتم ضحكتها حياء منا.
أما خلال رحلة اليوم فقد قطعت من ديفين إلى ياجودينا ومنها باتجاه تريجراد زهاء (18) كم ، حيث رأيت تربتهم في هذه الجبال حمراء بلون الطوب الأحمر وهو أشبه بتربة أفريقيا ، إن هذه الجبال بغاباتها ذو الفصيله الصنوبريه والتي تمتاز بارتفاع يتجاوز طولها الأربعين مترا هي ممشوقه الرؤوس باتجاه السحاب ، حيث منظرها تأخذ بمجاميع القلوب في النفس.
ومنذ أن أبصرت المشي في هذا الفضاء الواسع من الغابات ، كان الصمت العميق والمهيب سيد المسار لا يقطعه إلا حفيف الأغصان والأوراق اللامعه الخضراء والتي هزها النسيم الهادئ وصوت الطير من حين إلى آخر والتي يكاد يطير بين ثنايا هذه الأشجار ، كنت أنظر إلى ما حولي وأنا أمشي بين الأشجار الناظره وهي بديعه وبهجه للناس فنظرتها وبهجتها هي جنه تفتح الأنفس لكل من يراها حيث لم تكن الضوضاء ترافقني في مساري فلا زئير الأسد رافقني فبدلا من ذلك كنت أستمع إلى صياح البلابل وصفيرها وعواء الثعالب.
أما في هذه اللحظة المفعمه بالطمأنينه، أويت فراشي حيث تمددت على ظهري طاردا سهادا من عينيّ وبت في أنعم الرفاه وأحسن النزاهه إلى أن انتصف الليل حيث فتحت نافذتي كي أنظر إلى السماء ما أرغب من نجوم وكواكب وكأنها عناقيد قد أضاءت سماء تريجراد ممسكا قلمي وأوراقي مستغرقا في الكتابه ومدونا مسير اليوم الأول بدروبه المطروقه ومجاملها والتي تنتظر من الرحال أن يقوم بارتياد واحاتها الخضراء إلى أن أتت تلك الغيوم السوداء حيث حتى حجبت ألق السماء غالقا نافذتي قبل أن يفرد الظلام راحتيه واضعا رأسي على المنامه حتى أشرق صباح اليوم التالي.
كان الجو في صباح اليوم التالي صحوا فيما السماء مشمسه بعد ما لفتها حزم من الغيوم عند منتصف الليل حيث عزمت الذهاب إلى (زيبغو) عن طريق (فوندي) منتعش الخاطر بمحاسن مناظرالجبال ومن ثم العوده إلى حاضنة (تريجراد).

يتبع في الحلقة القادمة

خالد بن سعيد العنقودي
[email protected]
كاتب ورحال عماني