مما لا جدال فيه أن التطور اللغوي يحدث غالباً في المادة التي تتكون منها اللغة ، وأعني بذلك الألفاظ ، فإذا دققنا النظر في عربيتنا الحديثة وجدناها تزخر بكثير من الألفاظ الجديدة المولّدة التي أخذت طريقها إلى الاستعمال ، وصارت مقيّدة بمعانٍ معروفة ، جارية على الألسن على الرغم من أن المعجمات القديمة لم تعرفها ، ولم تستخدمها بالمعنى الجديد ، كما أن المتشددين من اللغويين لا زالوا مترددين في عدّ هذا اللون من الألفاظ الجديدة في عداد الفصيح ، من ذلك مثلاً لفظة (الانتهازية) التي بنيت على هيئة ما يسمى في العربية بالمصدر الصناعي. والانتهازية كلمة تشيع في كتابات المعاصرين للتعبير عن نمط في الأخلاق غير حميد أو مستحب. وهي في نظر علماء الاجتماع اتجاه يلحظ عند الفرد والجماعة ، ويتلخص في تحيّن الفرص ، وتخيّر الظروف لتحقيق هدف أو غاية ، دون تمسّك بمبدأ أو التزام بقضية. والانتهازيّ عند المحدثين: النَّهَّاز للفرص بغية الحصول على منفعة ، وعلى هذا فالانتهازي من لا يؤتمن ، والانتهازية : الخُلُق الذي يتّصف به الانتهازي ، والكلمة مما يُنبز بها في عصرنا. وعلى الرغم من أنها بهذه الحدود الواضحة ، وبهذه الكثرة من الاستعمال ، فإننا لا نقف عليها في معجم لغوي للعربية مع أن أصلها عريق فيها ، فالنَّهْز أصل صحيح يدل على حركة ونهوض وتحريك الشيء ، والنهز : النهوض لتناول الشيء ، ومنها انتهاز الفرصة ، ومن الباب قولهم : ناهز الصبي الفطام، إذا داناه وقاربه كأنه نهض له وتحرّك.
ومما بني على هيئة المصدر الصناعي ويشيع أيضاً في كتابات المعاصرين ممن يتناولون المسائل السياسية لفظة (الانهزامية) وهي نموذج من الخُلُق خاص ، فالانهزامي هو الذي لا يتحمل مواجهة الأمور الصعبة والظروف الدقيقة ، وإنما يفضّل الابتعاد عن هذه المواطن ، وهذه اللفظة هي الأخرى مما لا نستطيع أن نقف عليها في معجم للعربية مع أنها أخذت من أصل عربي صحيح يدل على غمز وكسر ، فالهزم أن تغمز الشيء بيدك فينهزم إلى داخل كالقِثَّاءة والبِطِّيخة.
ومن مثل ذلك أيضاً لفظة (التَّقدُّميَّة) وهي من أصل عربي فصيح ، إلا أنها تطورت بمدلولها واكتسبت في عرف المحدثين مصطلحاً جديداً يفيد طريقة في التفكير وأسلوباً في العمل ، وفلسفة تجنح إلى التقدّم والعزوف عن الجمود ، وقد شاعت هذه الكلمة في كتابات السياسيين وعلماء الاجتماع في مطلع القرن العشرين ، ولا سيما في كتابات الاشتراكيين ، والتقدّميّ هو القائل بالتقدّميّة والسالك في نهجها والآخذ بفلسفتها.
فهذه الكلمات أو المصطلحات وأمثالها يقتضي التطور اللغوي والحضاري أن تحتل مكانة في معجم لغوي حديث أصبحت حاجة العربية ماسة إليه ، وما زالت الهيئات والمجامع اللغوية العربية تفكّر في مثل هذا المعجم التاريخي ، وتتخذ بشأنه القرارات والتوصيات التي نأمل أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ في الغد القريب.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
استاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]