(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ..)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسـلام عـلى الـرسـول الأمـين، وعـلى آله وصحـبه أجـمعـين ، وعـلى التابعـين لهـم بإحـسان إلى يـوم الـديـن وبـعـد:
فـيـقـول الله تعالى في كـتابه العـزيـز:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا، وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الإسـراء 9 ـ 10).
قال الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ..) (يـونـس ـ 26)، فالله تعالى يـقـول: إنـني أعـطي الــذين أحـسـنوا الأجـر الـذي يستحـقـونه كامـلا وهـو المعـبر عـنه، (بالحسنى)، ثـم أزيـدهـم وهـو المعـبر عـنه بـ (الـزيادة)، وهـذا الإبـهام في الـزيادة يـفـسـر بعـشـر أمـثـالها.
كما تـوجـد آيات أخـرى تـبين بأن الله تعالى يـضاعـف الـثـواب لمـن يـفـعـل الخـير تـكــرما مـنه، ولـكـن لـم يـبين مـقـدار هـذه الـمضاعـفـة ، فـمـثـلا يـقـول الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ..) (يـونـس ـ 26)،(الحـسنى) هـي المـثـل المقـابـل، أي هـي المـقـدار المحـدد مـن الـثـواب الـذي يسـتحـقـه المحـسن بعـمله ، فـ(الحـسنى)، مـبـتـدأ مـؤخـر, و(للـذين أحـسنـوا) خـبر مـقـدم، ولعـل أحـداً يخـطئ الـفـهـم فـيـظـن أن (الحـسنى) مـفـعـول به لـفـعـل (أحـسنـوا)، كـلا، و(وزيادة) هـي المقـدار غـير المحـدد الـذي يـفـسره قـوله تعالى:(فـله عـشـر أمـثالها)، وهـذا هـو التـفـسير الـدقـيـق للآيـة، بالرغـم مـن الـذين فـسروا قـوله تعالى:(وزيادة) أن الـزيادة هـي رؤيـة الله يـوم الـقـيامة، كـلا، فـما فـسـر الـقـرآن مـثـل الـقـرآن.
كـذلك نجـد الإبهام في قـوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (القـصص ـ 84)، فالمـراد بالخـيرية الأجـر المحـدد للحسنة في عـلـم الله، مـع الـزيادة التي حـددها الله بقـوله: (مـن جـاء بالحسنـة فـله عـشـر أمثالها).
والـقــرآن يـبـين لـنـا أن لـكل عـمـل مـن أعـمال الخـير جـزاء مـقـدر مـنه سـبحانه وتعالى وأن أي عـمـل مـن أعـمال الشـر جـزاء مقــدر مـن الله تعالى، ثـم إن الله تعالى يتـفـضل بالـزيادة في الخـير، ولا يـظـلـم بالـزيادة في الشـر، كما نجـد في الـقـرآن نصـوصا تـدل عـلى أن الـزيادة قـد تكـون بـأكــثر مـن عـشـر أمثالها، كما جـاء في قـوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البـقـرة ـ 261).
فـكأن الجـزاء العـام للحـسنة في الأمـور العـاديـة عـشـر أمـثالها، وأمـا في الأمـور غـير العـادية فـبالإضـافـة إلى عـشر أمثالها، يأتي الله بالـفـضل والتكـرم في بعـض الحـالات عـلى مـن يـشـاء بأكـثر مـن ذلك بحـسـب تـفـاوت الناس في إخـلاصهـم، أو في أشـياء يعـلـمها هـو سـبحانه وتعالى، فـهـو يعـطي الـفـضل ويـزيـد كـما قال في الصابـرين:(.. إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الـزمـر ـ 10).
وهـذا يـنـفي ولا يـلـغي الـقاعـدة الأصـلـية الأولى، التي حـكـم الله تعالى بها، وكل كـلامه محـكـم في كـتابه العـزيـز وهـو أصـدق الـقائـلـين، أن مـقـابـل الحسـنة عـشـر أمـثالها وفـوق العـشـرة يـكـون الجـزاء بسـبعـمائـة ضـعـف أو سـبعـة آلاف ضـعـف إلى الجـزاء بـغـير حسـاب، وكل مـن فـضل الله ولا حجـر عـلى الـفـضـل، فهـو سـبحانه يمـن بالـرحـمة، ولا يـظـلـم بالعـذاب، يـتـفـضل بـزياد بالخـير، ولا يظـلـم بـزيادة بالـشـر.
أما المسألة الأخـرى فهـي: هـل يمكـن أن تـزر وازرة وزر أخـرى؟، أي هـل يمكـن أن يحـمـل إنسان ذنـب إنسان آخـر؟، أي أن يعـمـل أحـد ذنـبـاً فـيـعــذب آخـر مـكانه، بحـيث يـرتـفـع العـذاب عـن المـقــترف المباشـر للـذنـب؟، هـذا ما لا يمـكـن إطـلاقاً، وهـذا ما قـرره الله تعالى بـقـوله:(ألا تـزر وازرة وزر أخرى)، وهـذه هي العـقـيـدة الصحـيحـة الـراسـخة، المنصوص عـليها في الكـتاب والسـنة وإجـماع الأمـة، ولا خـلاف فـيها مـطـلـقاً فـلا يتصـور أبـدا أن يـرتـكـب أحـد ذنـبا ويـعـاقـب به غـيره ، وإذا كان هـو المتـسبـب فـإنما يعـمـل عـلى شـاكـلته، أما أن يحـمـل عـنه الـوزر فـهـذا أمـر محال ، كما قال الله تعالى:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (العـنـكـبوت ـ 12).
فإياكـم أن يـداخـلـكـم شيء مـن الطـمـع الـفـارغ، فـتـظـنـون أنه يمـكـن لأحـد أن يـرتكـب ذنـبا فـيـعــذب به غــيره، وقــد يــعــذب مـعـه عـلى ذنـبه إذا كان المـتـسبب فـيه، أو يسـر له سـبـل المعـصية، ويـدل عـلى ذلك قـوله (صـلى الله عـلـيه وسـلم):(مـن سـنة حسـنة فـلـه أجـرها وأجـر مـن عـمـل بها إلى يـوم الـقـيامة، ومـن سـن سـنـة سـيئة فعليه وزرها ووزر مـن عـمـل بها إلى يـوم الـقــيامة)، أما أن يـرتـفـع عـنه العـذاب مـطـلـقـا فهـذا هـو الأمـر المسـتحـيـل.
فإذا فـتح أحـد حـانـة، وأوجـد فـيها الخـمـر، فـهـو عـاص بهـذا الـفـعـل، وسـيجـازى عـلـيه ولـو لـم يـشـرب الخـمر، ثم إنه يتحـمـل كـذلك وزر كـل مـن جـاء الحانـة وشـرب فـيها الخـمـر، مـن غـير أن يخـفـف عـن السـكـير عـقـوبة سـكـره ولا يمـكـن للـسكـير أن يـقـول يا رب، هـذا الـذي فـتح أبـواب الحـانة وأوجـد الخـمـر، ودعـاني إلـيها فـشربت فـليـتـحـمـل هـو جـريرتي فهـذا مسـتحـيـل، وكـذلك الـذي يـغـري فـتاة ويــدخـلها عـالـم الـفـسـق فـتمـتهـنه ، فإنه يتحـمـل وزر فـسـقها مـن غـير أن يخـفـف عـنها شـيء مـن تبعـية أعـمالها مـن العـذاب المقـرر لـذلك.
والـذي يـعـلم غـيره وسـيـلة مـن وسـائـل الـفـساد والضلال، فإنه سـيكـون شـريكه في كل عـمـل يـقـوم به ، مـن غـير أن يخـفـف عـن المـذنـب شيء مـن الـذنـوب ، كما قال الله تعالى:(.. قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) (الأعـراف ـ 38)، وهـكـذا الـشأن بالنسـبة لـكل مـن فـتح بابا للـفـساد أو أضـل شـخـصا وما أكـثرهـم، فـلا يـقـول المـرتكـب للـذنـب: إن فـلانا هـو الـذي يتحـمـل ذنـوبي، لأنـه هـو الـذي عـلمـني الـغـش والخـداع والسـرقة والـفـسـق والـفـجـور وشـرب الخـمـور، كـلا لا مطـمـع في هـذا، لأن سـنـة الله تعالى لا تـتغـير وقانـونه لا يــتـبـدل إذ هـو القائـل: (وألا تـزر وازرة وزر أخـرى).
ومـن أصـرح الآيات الـدالة عـلى هـذا المعـنى قـوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ..) (فاطـر ـ 18)، إذا ذهـب أحـد إلى ربه مـثـقـلا بـذنـوبه، ودعـا الناس أن يحـمـلـها عـنه، فإنـه لا يتـقـدم إلى حـملها أحـد ولـو كان ذا قـربى، وقـد يـقـول أحـد: يا رب إن آبائي لـم يـعـلمـوني الصلاة، أولـم يـعـلـمـوني الـصيام فـالـق ذنـوبي عـلـيهـم، أو خـفـف عـني بعـض ذنـوبي وألـقـها عـليهـم أو يـقـول: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (فـصـلت ـ 29)، هـذا ما لا يـكـون ولـو كان الـقـريب أباً أو أمّاً، أو صـاحـبة أو ولـداً، ولا خـلاف في هـذا بـين عـلـماء الأمـة عـلى اخـتـلاف مـذاهـبها في الـقـديـم والحـديث.
ولـم يـقـل واحـد منهـم أنـه يمكـن لأحـد أن يجـعـل ذنـوبه عـلى غـيره، نـظـرا للنـصوص الـصـريحة الـواردة في المـوضوع فـقـوله تعالى:(.. كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطـور ـ 21)، وقــوله تعالى:(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المـدثـر ـ 38) ، فهـو حـكـم صريح وواضـح.
أما المـوضـوع الآخـر الـذي وقــع فـيه شـيء مـن الخـلاف، هـو انتـفـاع المسـلم بعـمـل غـيره فـيا تـرى، هـل يمـكـن للمـسـلم أن ينـتفـع بعـمـل غــيره؟ أي أن يـعـمـل أحـد الخـير فـينـفـع به آخـر؟ هـذا هـو المـوضوع الأخـطـر باعـتـبار، وهـذا الـذي أريـد أن أتحـدث فـيه بشي مـن التفـصـيـل.
ولـنـعـد إلى نـصوص الـقـرآن الكـريـم أولا: ثـم نـذكـر بـعـد ذلك ما قـاله العـلـماء، فإذا نـظـرنا إلى صـريح الآيات ولا سـيـما قـوله تعالى:(أم لـم ينـبـأ بما في صـحـف مـوسى وإبـراهـيم الـذي وفى، ألا تـزر وزارة وزر أخـرى، وأن لـيس للإنسان إلا ما سـعـى)، الآية صـريحـة بـيـنة محـصورة عـلى أن الإنسان لـيـس له إلا ما سـعـى، ولـكـن هـل للآية تخـصـيـص عـمـومها، أو تـقـيـيــد لإطـلاقها، فـنــقـول: إنـه هـل يمـكـن لأحـد أن ينـتـفـع بعـمـل غـيره؟.
اخـتـلـف العـلـماء في المسألة، قال: الجمهـور مـن السـلـف والخـلـف، إنه لـيس للإنسان إلا ما سـعى، وإلا ما اسـتـثـنـته الشـريعـة، كما سـنـذكـره، والـدلـيـل الأقـوى مـعهـم، وهـذا الـذي نـدين لله تعالى به، وأريـد أن أبين دلـيـل الجمهـور، لأن المسألة تتعـلـق بالعـقـيـدة وأصول الـدين في الأولـين والآخـرين.

ناصر بن محمد الزيدي
.. وللحـديـث بـقـية.