عمَّان ـ العُمانية: يُقدِّم التشكيلي سعيد حدادين في معرضه (شهقة لون) أعمالًا تعبيرية يمكن وصفها بخلاصة تجربة فنية امتدَّت لعقود من الزمن، إذ يُعدُّ الفنان من جيل ما بعد الروَّاد في الساحة الأردنية. تتناول أعمال البورتريه المعروضة بالمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، حالات إنسانية تجسد معاناة إنسان العصر وتعكس تأملاته وأفكاره وهواجسه وأحزانه. وتبدو رسومات الفنان وكأنَّها قصائد بصرية، إذ يمزج فيها بين حالة من التشكيل البصري الواضح للعين، والقراءات الثقافية العميقة لما وراء الوجه، والتي تعتمد على تأويلات المشاهد ورؤيته الخاصة.
تبرز الملامح المتعددة للوجوه عند حدادين الذي تخرَّج في أكاديمية الفنون (الفوف) بالاتحاد السوفييتي سابقًا، وفق نمط تشكيلي يركز على حالتها الوجودية، وهو يقارب في خطوطه رسم (الإسكتش)، محاولًا في كل ذلك إقامة علاقة بين الإنسان ككائن له خصوصيته، وبين الطبيعة المحيطة به، لذا أطلق على أعماله وصف (الجغرافيا الإنسانية)، ساعيًا فيما يرسمه إلى تشويه متعمَّد لملامح الوجه كما لو أنَّه يقوم بتحطيم صورة (المثال) أو (التمثال)، وإزالة الهالة التي تحيطه بهدف الوصول إلى التحرر الإنساني المنشود.
كما يعمد حدادين المولود عام 1945، إلى فعل التشويه ذاك بهدف التحايل على رسم وجوه لا تزال تعيش في ذاكرته، وفيها يسكب مشاعره تجاه تلك الوجوه التي لا يمكن الاستدلال على أصحابها في الواقع، لذا فهو يغلّف لوحاته على الدوام برؤى لونية مختلطة، كأنَّما تتأرجح وجوهه بين الواقع الذي أوجدها، والذاكرة التي أحالتها إلى خيالات.
وهناك أعمال معروضة تقترب فيها البورتريهات بشكل واضح من نمط الكاريكاتير الذي مارسه حدادين خلال عمله رسامًا للكاريكاتير في مجلة (الوجدان العربي) التي كانت تصدر في نيذرلاندز، حيث التركيز على الأبعاد غير الواقعية للوجوه، وتجسيد ملامحها ضمن بعد موازٍ تتحكم الفكرة القابعة في عمقه بطريقة تقديمه. ففي عدد من الأعمال تبدو العينان مغلقتَين بالكامل، والملامح الأخرى مرسومة بشكل بعيد عن الدقة والواقعية، وهي تنساب من بين الألوان القاتمة التي اختارها الفنان، وفيها تعبير كبير عن حالات الحزن والشجن والألم.
وفي مجموعة أخرى، يجد المشاهد لوحات لا تمتلك غير عين واحدة مفتوحة، بينما الأخرى تمت تغطيتها عبر الألوان، وهذه المجموعة تصور حالات من الخوف والرعب، أو الترقب والانتظار، والألوان فيها تميل لتكونَ محدَّدة وواضحة أكثر، فالمساحات البيضاء لها خطوطها الواضحة، والأزرق الذي يجاورها له حدوده أيضًا، أو قد تأتي اللوحة محددة بالخطوط السوداء غير أنَّ البنِّي الترابي هو اللون السائد فيها.
المتأمل في وجوه سعيد حدادين ستواجهه عيونها التي تحتل المركز الأساسي في اللوحة، فهي إما شاردة في مكان بعيد، أو ساهمة تنظر للفراغ، أو تحمل رموزًا تعبِّر عن حالات إنسانية وجودية متعددة، وكأنَّ الفنان بذلك يؤكد أنَّ للعيون لغتها الخاصة، فقد قيل قديمًا إنَّها (مغاريف الكلام)، ولعلَّ تلك القوة التي يعطيها الفنان للعيون تسيطر على المشاهد بقوة بحيث تبقى في ذاكرته ولا ترحل.
كما يُقدِّم حدادين لوحات لوجوه نسائية، جاءت في معظمها وفق خطوط ناعمة تركز على تشريح الوجه ونقل انفعالاته وتعبيراته، وعلى الألوان الهادئة، وهذه الوجوه بدت كأنَّها تغرق في خلفيات لونية من الأخضر وتدرجاته في مقاربة ربما تجعل من المرأة رمزًا للأرض والخصب والجَمال وللوطن، وهذه الوجوه فيها الكثير من التأمل والتطلع للقادم.
لوحات سعيد حدادين تعلي من قيمة الوجوه الإنسانية، وكأنَّما يقرأ من خلالها الإنسانَ بعامة، ويغوص في دواخل النفس البشرية، لتظهر تلك الدواخل عبر ملامح ملونة بألوان باردة وحارة، وخطوط بسيطة وأشكال مبنيَّة بعناية، وبناء متداخل وضبابي وغائم، وهي تحمل بمجملها رموزًا وجودية عميقة.