يُمثِّل التعليم حجر الزاوية في تطوُّر أيِّ مُجتمع، كما أنَّ مختلف التطوُّرات بجميع مجالاتها تؤثِّر وتتأثر به. فالتطوُّر الحاصل الآن فيما يُسمَّى بثورة الذَّكاء الاصطناعي ـ بلا شك ـ له انعكاساته، سواء الإيجابيَّة أو السلبيَّة على مسار التعليم على المستوى الدولي أو المحلِّي. من هنا كان الواجب منَّا أن نوجِّهَ تلك الجهود المبذولة في هذا المجال لخدمة التعليم وليس للإضرار به.
فليس كُلُّ تطوُّر في مجال التكنولوجيا هو لصالح تطوُّر التعليم، فالذَّكاء الاصطناعي جاء ليسهلَ حياة الإنسان بحيث يساعده بتوليد الأفكار والمعلومات والمنتجات بمختلف أنواعها، وبالتَّالي يجِبُ الأخذ مِنْه في مجال التعليم بما يتناسب مع هذا الدَّوْر الَّذي يجِبُ أن يستفيدَ مِنْه قِطاع التعليم.
قَبل فترة أعلنت إحدى دوَل شمال أوروبا عودتها إلى تعليم الطلبة ـ وخصوصًا الحلقة الأولى من التعليم ـ باستخدام الكرَّاس والقلم، واقتصرت على استخدام التكنولوجيا في المستويات العُليا، وتحذو حذوها الكثير من دوَل العالَم مِثل الصين والَّتي تُعدُّ رائدة التكنولوجيا وقائدتها في الوقت الحالي. بمعنى آخر، اكتشفت هذه الدوَل أنَّ التطوُّر التكنولوجي في مجال التعليم يجِبُ أن يكُونَ محدَّدًا وواضحًا، فليس كُلُّ تطوُّر تكنولوجي ممكنًا أن يفيدَ التعليم. فمراحل الدراسة مختلفة ومتدرجة، ولكُلِّ مرحلة مهاراتها الَّتي يجِبُ اكتسابها قَبل الانتقال للمرحلة اللاحقة، وأبرز ما يُميِّز المرحلة الأولى من التعليم هي تمكُّن الطالب من المهارات الأساسيَّة مِثل القراءة والكتابة ومبادئ الحساب ومهارات بعض اللغات، ثمَّ يُمكِن الانطلاق في استخدام التكنولوجيا وفق محدِّدات أقلَّ تقييدًا عن ذي قَبل. فالذَّكاء الاصطناعي ـ كما أشرت ـ في مُعْظم برامجه وخصوصًا المروَّج لها حاليًّا، هو في الأساس لتسهيل وتبسيط الحياة، وإن وجدت برامج تدعم تنمية المهارات فهي ما زالت في البداية، والطالب هنا محتاج أن يقومَ بنَفْسه بتنمية مهارات قَبل البدء بأيِّ شيء في الأساس.
إنَّ إدراك القائمين على أمْرِ التعليم بأهمِّية وجود وعيٍّ لدى مختلف أطياف المنظومة التربويَّة لهو السبيل الناجع للاستفادة الجيِّدة من هذه الثورة والمتمثل في وجود وعيٍّ أوَّلًا في أنَّ الذَّكاء الاصطناعي ليس موضة أو هبة تركب من أجْل إثبات أنَّنا مواكبون للرَّكب والتطوُّر، بالاستفادة مِنْها بالطريقة الصحيحة في تنمية مهارات الطلبة وصقل إمكاناتهم، ولَنْ يتأتَّى ذلك بمجرَّد البحث عن برمجيَّات تنجز لنَا المطلوب بكبسة زر، فهذا لَنْ يصنعَ لنَا طلبة قادرين على مجاراة الواقع والاستعداد للمستقبل. فبنظرة سريعة على ما يتمُّ توظيفه الآن من برامج في العموم هو في الواقع لا يُمكِن أن يخدمَ التعليم، فمجرَّد صناعة شخصيَّة كرتونيَّة تتحدث ببعض المعلومات عن موضوع الدَّرس لا يُعدُّ تطبيقًا حقيقيًّا للذَّكاء الاصطناعي في مجال التعليم، بل يجِبُ أن تكُونَ هذه البرامج داعمةً للطلبة؛ لكَيْ يقوموا هم بأنْفُسهم باكتشاف وتعلُّم المعلومة أو المهارة.
من هنا وجب على الجميع أن يعيَ هذه الفكرة، فالممارسة الواقعيَّة القائمة على معرفة ماهيَّة المطلوب من برمجيَّات الذَّكاء الاصطناعي لخدمة التعليم وتوضيحها هي السبيل الناجح للاستفادة القصوى من هذه الثورة. فلا يهمُّ هنا ماذا نستخدم، بل كيف نستخدمه لخدمة أهداف المنظومة التربويَّة، وهذا يتطلب وعيًا حقيقيًّا من الجميع، فلا ننخدع بالمظاهر، بل نهتمُّ بالنتائج المتحقِّقة.
فلو عُدنا بالذاكرة قليلًا لتقريب أكثر للفكرة عِند تطبيق أسلوب التعلُّم التعاوني، فرغم أهمِّيته في إحداث نقلة نوعيَّة في مجال التعليم والمتمثلة في أنَّ اشتراك الطلبة في فهم المعلومة يساعد أكثر على رسوخها وأيضًا تنمية قِيَم لا حصر لها، إلَّا أنَّ الإشكاليَّة الَّتي تمَّت مواجهتها لليوم تمثلت في كيفيَّة التطبيق، فانحصرت عِند البعض في مجرَّد وجود مجموعات دُونَ تفعيل حقيقي لها أثناء مجريات الدرس. أمَّا أولئك الَّذين أدركوا كُنْه وماهيَّة التعلُّم التعاوني فقَدِ استفادوا وأفادوا طلبتهم، فالإشكالية في عمليَّة الاستفادة وليس في مجرَّد التطبيق، كما أنَّ موضة التعلُّم النشط الَّتي هبَّ عَلَيْها النظام التربوي في فترة من الفترات ورغم أهمِّيتها أيضًا، إلَّا أنَّها واجهت نَفْس الإشكاليَّة الَّتي أشرت لها. من هنا يجِبُ أن يعيَ ويطبقَ الجميع البرامج ذات العلاقة بالذَّكاء الاصطناعي والَّتي تخدم تنمية مهارات ومعارف الطالب بحيث يكُونُ هو مَنْ يتحكم فيها، وهي موجودة وكثير من المعلِّمين بدأ يستخدمها عِندما أدرك أنَّها هي المقصودة لخدمة التعليم وتنمية مهارات الطلبة، وبما أنَّنا في البداية وجب التنبيه لهذا الأمْرِ حتَّى لا تتكرر نَفْس الأخطاء السابقة.


د. خصيب بن عبدالله القريني
[email protected]