في هذه المقالة، كما فعلت عَبْرَ العديد من مقالاتي وكتُبي، أحاول أن أميطَ اللثام عن الأوضاع المحبطة لبعض دوَل الشَّرق الأوسط (شعوبًا وحكومات)، وهي تلك الدوَل المأسورة بماضٍ طللي متناهٍ إليها من القرون الوسطى، ماضٍ غير قابل لإعادة الإنتاج ولا للمحاكاة، وذلك لعددٍ من الأسباب والعوامل المتنوِّعة، مِنْها الداخليَّة ومِنْها الخارجيَّة. ويتجسَّد أقوى هذه الأسباب المعيقة وأكثرها فاعليَّة في تراجع روح المبادرة الإبداعيَّة بَيْنَ أقوام الإقليم في مقابل تقدُّم روح المحاكاة الَّتي تهيمن على هذه الأقوام في عالَم تنافسي لا مجال فيه للسلبي ولا للمستكين غير القادر على المبادرة والخَلق. وعلى نَحْوٍ أكثر تبسيطًا لمباشرة وتطوير جدلي هذا، أفترض هيمنة حلم معيق مستوحى من العصر الوسيط، حلم يحظى بإدامة الفئات المستفيدة من بقائه وتواصله على نَحْوٍ لا نهائي درجة قرنه ببقائها وتواصل نفوذها. إذا لَمْ تحرِّرْ أقوام الشَّرق نَفْسها من هذا الحلم الَّذي له تأثير التنويم المغناطيسي، فإنَّها ستبقى حبيسة بدائرة لعنة سحر أسود مغلقة، كتلك اللعنة الأبديَّة الَّتي وقَعت على سيزيف في جهده العبثي لإنجاز ما يستحيل إنجازه. لستُ أقصدُ من هذا الجدل إدانة فئات اجتماعيَّة متنفِّذة في دوَل الإقليم؛ لأنَّ ترويضها لشعوبها هو، في حقيقته، جزء من تلك اللعنة الَّتي توارثتها هذه الفئات هي الأخرى ووقَعت ضحيَّة لها. لقَدْ غَدَا الحلم المعيق هذا أسلوبًا معتمدًا للحياة المعاصرة، أسلوبًا يُمكِن تبريره وتمريره والدِّفاع عَنْه كواحد من أعمدة الاستقرار المُجرَّبة والقديمة، عمود يُمكِن تقديمه وبهرجته، أسلوبًا واعدًا بالمستقبل وأسلوبًا متفوِّقًا مقارنةً بالأساليب المعتمدة بَيْنَ الأُمم والدوَل الأخرى. يكمن المأزق الحقيقي في الضوابط الاجتماعيَّة القويَّة والمقاوِمة للصدمات والرَّجَّات العنيفة الَّتي تدعمها أُطر سياسيَّة اجتماعيَّة قديمة، أُطر كانت قَدْ شاخت وتحجرت حتَّى عجزت عن الحركة والتطوُّر بسبب ضمِّها للمقدَّس ولتقليد عتيق يتجذر في قِيَم البداوة الصحراوي الجافِّ. لذا يُشكِّل الإقليم لغزًا لا يُمكِن أن يُحلَّ بسهولة في نظر العالَم الحديث بأسْره، خصوصًا وأنَّه يمسك بنسغ حياة العالَم الصناعي (النفط) بَيْدَ، بَيْنَما يمسك ببعض من أكثر أسلحة الدمار الشامل فتكًا باليد الأخرى؛ وأقصد بذلك السِّلاح «الإرهاب» الَّذي صيَّر الاستجابة للتغيُّر ومحاولة تحرير أقوام الإقليم من الغلاف المتحجر المحيط بها عَبْرَ قرون ضربًا من ضروب المستحيل، برغم طرقات مطارق الجديد والشجاع القويَّة والمتعاقبة على ذلك الغلاف.
وعَلَيْه، استوحى الفكرة الأصل لهذه المقالة من استذكار وفحص عددٍ من المحكَّات والمحطَّات المُهمَّة، ومِنْها المفارقات المشحونة بالمعنى ذات القِيمة الخاصَّة من أجْل التحقُّق من «افتراضيَّة الحلم» الَّتي تكوَّنت أصلًا من ذات الاستفهامات الَّتي أرَّقت وأربكت أساطين النهضة العربيَّة الإسلاميَّة قَبل حوالي قرن ونصف. هي استفهامات يُقصد مِنْها إلقاء الأضواء على أسباب تمسُّك أقوام هذا الإقليم على بموقف رجوعي متخلِّف مقارنةً بالأُمم المتقدِّمة السَّائرة نَحْوَ المستقبل الزاهر؛ كما يُقصد مِنْها أيضًا الكيفيَّة الَّتي يخدم الماضي الوسيط بموجبها عاملًا من عوامل الإعاقة الَّتي تواشج الحاضر والمستقبل بمنظومة عجلات كبيرة متعشقة ببعضها البعض؛ لتدوير آليَّة كبيرة قوامها منظومات ثانويَّة من العجلات المتعشقة كذلك لِتُشكِّلَ مع المنظومة الأولى آليَّة عملاقة معقَّدة؛ لأنَّها تَدُور بواسطة محرِّك أساس واحد، محرِّك ذي طبيعة أسطوريَّة خرافيَّة مضموم في دواخل النَّفْس الجماعيَّة الَّتي ترتدُّ وتتردَّد إلى ذلك «الماضي المَجيد» المفترض حتَّى إحالة التاريخ إلى عامل إعاقة بسبب اجتثاثه لملَكة الإبداع وتغذيته لملَكة المحاكاة العمياء. لقَدْ أطفئ ما ينبعث مِنْه من شعاع الماضي، فبدلًا من إحالته إلى دافع للتغيُّر أو قوَّة للتقدُّم، تجاوز الحلم (الكابوس) تيقنات اللاوعي الجماعي لِيغدوَ زنزانة خانقة.



أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي