نتوقف هنا عند بعض آيِ الذكر الحكيم من سورة إبراهيم (عليه السلام) نحاول ففهمَ بعضِ ما ورد فيها، وإدراك جلال ما أحاطها من جمال، وكمال، يقول الله تعالى:(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) (إبراهيم 42 ـ 43).
هاتان آيتان من كتاب الله عز وجل من سورة إبراهيم (عليه السلام)، ندور حولهما، نستملي بلاغتهما، ونقف عند كلماتهما، مستمطرين من الله فهمَهما، والاقتراب من قمة بلاغتِهما، راشفين من نَمير ضَرَبِهما، ومسك شذاهما، وعطر أريجهما، وفَوْح عطائهما، وتنسم عليل هوائهما.
تبدأ الآية الأولى بأسلوب النهي الذي أداتُه:(لا الناهية)، وبعدها فعل مؤكَّد بنون التوكيد المباشرة، فهو مبنيٌّ على الفتح، في محل جزم، وموجَّه في الأصل لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأتباعه المؤمنين من بعده، وهو نهي يفيد النصح، والعظة، والتبصير، وفهم واقع الأمور: من نحو أن الله رقيبٌ على كونه، حسيبٌ لكلِ ما فيه من أعمال مهما خفيتْ، واستترتْ، وبُيِّتَ لها، واختفتْ، أو كانت مؤامرةً ضد القيم، والدين، ويدخل فيها كلُّ عملٍ لأيِّ ظالم مهما كانت قدرتُه، ومهما وصلَتْ مُكْنَتُهُ، ومهما علت استطاعتُه، وجبروته، والفعل (حسب) في اللغة العربية له ثلاث صور، أو ثلاثة أنماط لغوية، ولكلِّ صورة، أو نمط دلالتُه، ففيه ثلاث حركات في ضبط (عين) ماضيه؛ الأول: بكسر السين، والثاني: بفتحها، والثالث: بضمها، فالصورة الأولى للفعل هي:(حَسَبَ) بفتح السين في الماضي، وفتحها في المضارع: (يَحْسَب) حَسَبًا: معناه ابيضَّتْ جلدته من داء، فهو أحسبُ، وهي حسباءُ، ونقول: حَسِبَ الشيءَ كذا، يحسبِه (بكسر السين، وفتحها) (ضبطان للماضي) حِسبانا: ظنَّه، ومنه قوله تعالى:(يحسَبُ أنَّ ماله أخلده)، ومنه:(يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا..) (البقرة ـ 273).
والصورة الثانية للفعل هي:(حَسِبَ) يحسَبُ حِسَابًا، وحِسْبَانًا (بكسر السين ماضيًا، وفتحها مضارعًا): أي عدَّه، وأحصاه، وقَدَّرَهُ، فهو حاسب، والمال محسوب، وأما الصورة الثالثة للفعل فهي (حَسُبَ) بضم السين ماضيًا، ومضارعًا:(حَسُبَ يَحْسُبُ): فبمعنى أنه كان له، ولآبائه شرفٌ ثابتٌ، متعدد النواحي، فهو رجل حسيب، أي ذو نسب ومنزلة في قومه، فالفعل في الآية الكريمة من باب (عَلِمَ يَعْلَمُ: حسِبَ يحسَبُ)، والحُسْبَانُ هو العَدُّ، والتدبيرُ الدقيقُ، كما جاء في التنزيل الحميد من قوله تعالى:(الشمس والقمر بِحُسْبَان)، كما أن الحُسْبان أيضا هو الصواعق والبَرَدُ، كما في قوله تعالى:(.. ويرسل عليها حُسبانًا من السماء فتصبح صعيدًا زلقًا)، أي يرسل عليها الصواعق وما يتبعها من جلد، وسحب، وبرد، وقد أكِّدَ الفعل المضارع جوازًا هنا بنون التوكيد التي ترسِّخُ المعنى في قلب المستمع، وتعمق الدلالة في ذاته وروحه، فلا يقربه حسبان ذلك الأمر أبدا، ولا يظهر على صفحة ذهنه، أو طيلة عمره أن الله يغفل عما يعمله الظالمون، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا، تقديره (أنت)، فهو نهي موجَّه لشخصه الشريف، وكذلك مَنْ وراءَه من المؤمنين؛ لئلا ينسوه طيلة حياتهم، ولكي يستصحبوه في أعمالهم، وكل شؤونهم، وكل أحوالهم؛ حتى يمضوا ثابتِي الجَنان، مستقري القلوب، ومستريحي الأبدان، مستصحبين قدرة الله، ومستعينين برقابة الرحيم، الرحمن.


د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية
[email protected]