مارستُ وأنا أكتب هذا المقال استراتيجية (الهايكنج) كأسلوب تفكير، وكطريقة لتوليد الأفكار، تكررت معي مواقف كثيرة من خلال هواية المشي الجبلي (الهايكنج) التي أمارسها بانتظام في نهاية كلِّ أسبوع، وأحيانًا أستبدلها بالمشي عندما أكون مسافرًا أو مشغولًا. أصعد عندما أكون بمفردي أو برفقة زملاء الهواية إلى جبال شاهقة مدفوعًا بفضول التجربة والاستكشاف، وأجد نفسي على ارتفاع شاهق، وتعترضني صعوبة النزول في بعض المواقف كما هو الحال عندما طلعت لأوَّل مرَّة َّإلى جبل جنجري في ولاية سدح صباح 15/‏12/‏2018م، دفعني الشغف وجمال المكان فتسلقت قمَّة الجبل، وعندما علوت ذروة سنامه، بالكاد استطعت أن أمسكَ بأطراف الصخور الحادَّة على جانبيه وأستعيد أنفاسي، ثم بدأت أنظر إلى البحر تارة وإلى جبال الصلاة (سمحان) تارة أخرى، فيعيد عقلي رسم بانوراما جمال الطبيعة الخلابة، مكثت بعض الوقت وأنا ألتقط بكاميرا هاتفي بعض المناظر الفريدة، مكثت قليلًا مستمتعًا بصوت الريح وأنا أختزل تلك المشاهد الجميلة في داخلي.
بعد ذلك بدأت أتلمَّس مكانًا لأقدامي على الصخور الملساء لكَيْ أهبطَ بسلام، وكان التحدي عسيرًا، وهنا توقفت عن المشي، وسمحت لعقلي بأن يسترخيَ ودعوت جسدي لاستعادة اتزانه، ولم أستغرق وقتًا طويلًا حتى وجدتني أتَّجه يسارًا وأنزل عبر ممرٍّ ضيق لا يبدو من بعيد سهلًا لكنني وجدته سهلًا وآمنًا، وقد قادني إلى الشاطئ الذي يطل عليه الجبل، ثم مشيت بمحاذاة البحر إلى مكان سيارتي، وقد تكررت معي التجارب كثيرًا وكلُّ مرَّة أسمح لعقلي بأن يستعيدَ هدوءه وأعطي لجسمي إيحاء بأن يستريحَ ويستعيدَ اتزانه، وبعد ذلك أجدني أمشي في الطريق الآمن، كما حدث معي عندما طلعت ممر آشري برفقة الدكتور أحمد مسعود المعشني في 7/‏ 5/‏2023م، كان الصعود شاقًّا عبر مسالك وعرة، اختفت منها آثار المارَّة، وتشابكت فيها أغصان أشجار الأكاسيا (ثومر) بأشواكها الحادَّة، لكنَّنا وصلنا بعد مشقَّة إلى قمَّة ناشب وتحديدًا قمَّة (كير) الشاهقة، وعندما عدنا أدراجنا هابطين، افترقنا وسلك كلٌّ منَّا طريقًا يقوده إلى فضوله، وأثناء النزول صار المكان أكثر وعورة، وكدت أرتبك وأنا أواجه وعورة غير معهودة، لكنني مارست نفس الاستراتيجية التي جربتها من قبل، هدأ عقلي، وتخلَّص جسمي من الاضطراب، واستعدت اتزاني وخضت التجربة مجددًا معتمدًا على بصيرتي التي وجَّهتني بدون ذكاء أو حيلة منِّي إلى ممرٍّ ضيِّق يبدو وعرًا جدًّا لكنَّه صار سهلًا بمجرَّد أن نزلت ملتمسًا طريقي، لقد درَّبتني رياضة (الهايكنج) على طريقة التفكير من أماكن مرتفعة، حيث أنفصل عقليًّا وجسديًّا ونفسيًّا عن المواقف الشائكة، وأستعيد اتزاني وهدوئي ثم أتصرف وفقًا للحكمة الداخلية التي حبانا الله بها، وفي صباح يوم الجمعة الماضي الموافق 1/‏12/‏2023م كنت محظوظًا بالعودة إلى أعالي وادي حينو بولاية مرباط، اتجهت بعد صلاة الفجر إلى شرق الوادي وتسلقت مكانًا جميلًا مكسوًّا بالشجيرات والأزهار الفواحة التي يتمزج حفيفها بزقزقة العصافير والطيور، وقد أغراني الجبل بمحاولة الصعود للوصول إلى قمَّة جبل النبي التي سبق وصلت إليها عن طريق حلزوني من جهة الشرق منذ عامين تقريبًا، لكن وعورة المكان كانت عصية، ووجدتني في مكان شاهق، ووعر؛ ما دفعني للنزول من حيث أتيت، ولأنَّ الوقت كان ضيِّقًا ولا بُدَّ أن أكونَ مع رفاقي الذين كانوا ينتظرونني في المقر، وقد تجاوزت الوقت المحدَّد لرجوعي إليهم بساعة واحدة.
وتطبيقًا لنفس الاستراتيجية خرجت من الحالة التي كنتُ عليها واستعدتُ حالة الهدوء والاتزان وصار الطريق أسهل مما كان، وهبطت بسلام وأمان وأدركت أصحابي في وقت معقول. وهكذا صارت استراتيجية التفكير من علو شاهق أسلوب تفكير وطريقة لحلِّ المشكلات واتخاذ القرارات.

د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية