بزغ نجم هنري كيسنجر في أواخر ستينيَّات القرن الماضي، بعد مغادرته السلك الأكاديمي، واختاره الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مستشارًا للأمن القومي، لِينجحَ في إخراج أميركا من مستنقع الحرب في فيتنام، ويحصل على جائزة نوبل للسَّلام مناصفة مع الزعيم الفيتنامي لو دوك ثو، وكافأه نيكسون بإسناد منصب وزير الخارجيَّة بجانب الأمن القومي.
في سبتمبر 1970 تُوُفِّي جمال عبدالناصر الَّذي كان مناوئًا لأميركا والغرب، وتولَّى أنور السَّادات الحُكم في مصر، والَّذي كان يكره الشيوعيَّة ويمقت السوفيت، وكان هواه «أميركاني»، وقرَّر طرد المستشارين العسكريِّين الروس، والاتِّصال بالإدارة الأميركيَّة، الَّتي كانت منشغلة عَنْه بحرب فيتنام، ولكنَّه نجح في لفْتِ أنظار هنري كيسنجر، بعد تصريحاته المتكررة بأنَّ 99% من أوراق اللعبة في قضيَّة الشَّرق الأوسط بِيَدِ أميركا.
وكان السَّادات يأمل أن تلتفتَ له الإدارة الأميركيَّة، وتُقدِّر تضحيته بالعلاقات مع موسكو، ولكنَّه أمام التجاهل الأميركي، اضطرَّ للعودة للسوفيت مرَّة أخرى؛ للحصول على السِّلاح اللازم لمعركته مع «إسرائيل». ويروى أنَّ ردَّ كيسنجر على طلب السَّادات بحلِّ النزاع مع «إسرائيل» سلميًّا وانسحاب «إسرائيل» من الأراضي الَّتي احتلَّتها في 6 يونيو 1967م مقابل السَّلام، بأنَّه ليس للمنهزم أن يمليَ شروطه، ونصح المصريِّين أن يضعوا قَدمًا في سيناء، حتَّى يستطيعوا الضغط على «إسرائيل» للجلوس لمائدة المفاوضات.
وفي نوفمبر 1973م كان أوَّل لقاء بَيْنَ كيسنجر والسَّادات في مدينة أسوان، لبحث كيفيَّة فك الاشتباك بَيْنَ القوَّات المصريَّة والإسرائيليَّة في غرب وشرق القناة، والَّتي كانت مقدِّمة لاتفاقيَّة السَّلام بَيْنَ مصر و»إسرائيل»، كما زار سوريا واجتمع مع حافظ الأسد 6 ساعات، ونجح في فكِّ الاشتباك على جبهة الجولان، ولكن تردُّد السوريِّين، وتفضيلهم الاستمرار ضِمْن المعسكر السوفيتي، حال دُونَ تطوير العلاقات مع أميركا، والوصول للسَّلام مع «إسرائيل».
جمعت كيسنجر بالسَّادات علاقة صداقة وطيدة، وتكرَّرت زياراته لمصر، وبدأ التأسيس لتوقيع اتفاقيَّة السَّلام مع «إسرائيل»، كما أراد أن يسديَ خدمة لرئيسه نيكسون الَّذي كان مطاردًا باتِّهامات بالفساد، في القضيَّة المعروفة باسم «ووتر جيت»، فرتَّب لقيام نيكسون بأوَّل زيارة لرئيس أميركي إلى مصر، وبعد قطع العلاقات المصريَّة الأميركيَّة بعد نكسة 1967 ووفاة عبدالناصر المُعادي للغرب، في محاولة مِنْه لِتلميعِ نيكسون ومحاولة إنقاذه من المصير المحتوم، وإظهاره بأنَّه رسول السَّلام بَيْنَ العرب و»إسرائيل»، رحَّب السَّادات بالزيارة، ورتَّب استقبالًا أسطوريًّا لنيكسون وركب معه سيارة مكشوفة قطعت شوارع القاهرة، متَّجهة لمنطقة أهرامات الجيزة، وسافر معه بالقطار إلى الإسكندريَّة واصطفَّ ملايين المصريِّين في محافظات الوجْه البحري يردِّدون الهتاف الشهير: «ويلكوم مستر نيكسون» الَّذي ترجمه اليساريون الرافضون للزيارة لـ»شرَّفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووتر جيت»، ولكن للأسف لَمْ تجدِ محاولات كيسنجر نفعًا، وعُزل نيكسون من منصبه بعد عودته من مصر، في سابقة لَمْ تحدُثْ مع أيِّ رئيس أميركي منذ جورج واشنطن إلى جورج بايدن، وتندَّر البعض على الزيارة وقالوا إنَّ نيكسون أصابته لعنة الفراعنة.
استمرَّ كيسنجر في منصبه مع تولِّي جيرالد فورد الرئاسة؛ لتكملة فترة رئاسة نيكسون المعزول، وبعد وصول الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر للحُكم، بعد هزيمته الجمهوري فورد، ودَّع كيسنجر المناصب الرسميَّة، وتفرَّغ لتأليف الكتب وتقديم الاستشارات السِّياسيَّة، وكانت هيلاري كلينتون أكثر وزراء الخارجيَّة الَّذين استعانوا بخبرات كيسنجر في رسم خريطة العلاقات والسِّياسة الخارجيَّة الأميركيَّة، حتَّى رحلَ في عمر المئة.


محمد عبد الصادق
[email protected]
كاتب صحفي مصري