يتساءل كثيرون لماذا لا تهبُّ رياح الديمقراطيَّة، والتداول السِّلمي للسُّلطة على منطقتنا العربيَّة؟! ويستغربون كيف استطاعت دوَل عديدة في آسيا وأميركا اللاتينيَّة، وحتَّى القارَّة الإفريقيَّة، قطع أشواط كبيرة على طريق الديمقراطيَّة والاستقرار السِّياسي، وأصبح لدَيْها رئيس سابق، وأحزاب سياسيَّة وبرلمانات بها معارضة قويَّة تستطيع مساءلة الحكومة، وسَحْب الثِّقة من المسؤولين، رغم أنَّها عانتْ مِثلنا عقودًا طويلة من الاستعمار والحروب والصراعات، والتدخُّلات الأجنبيَّة والانقلابات العسكريَّة والاضطرابات الداخليَّة، حتَّى عهد قريب. فدَولة مِثل كوريا الجنوبيَّة الَّتي أصبحت اليوم ضِمْن أقوى عشر دوَل اقتصاديًّا على مستوى العالَم، عانتْ في خمسينيَّات القرن الماضي من حرب إقليميَّة طاحنة انتهت بانفصالها عن كوريا الشماليَّة، وعاشَتْ عقدَي الستينيَّات والسبعينيَّات في حالة من الفقر والفوضى والانقلابات العسكريَّة، ولَمْ تعرف الهدوء والاستقرار السِّياسي والاجتماعي إلَّا في تسعينيَّات القرن الماضي، تحوَّلت في الثلاثين عامًا الأخيرة إلى نمرٍ اقتصادي ودَولة ديمقراطيَّة حديثة، تنافس أميركا والصين وأحيانًا تتفوق عَلَيْهما في مجالات الصناعة والتكنولوجيا والذَّكاء الصناعي. ونَفْس الأمْرِ ينطبق على الهند، أكثر دَولة عانتْ من ويلات الاحتلال البريطاني، الَّذي انسحب مِنْها عقب الحرب العالَميَّة الثَّانية وترَكَها في حالة من الفوضى، انتهت بالانفصال عن باكستان، وقضَتْ حقب الخمسينيَّات والستينيَّات والسبعينيَّات في حروب مع جيرانها، عانتْ بسببها من الفقر والجهل والتخلُّف والنزاعات العرقيَّة، ولكنَّها أصرَّت على اختيار الديمقراطيَّة وتداول السُّلطة طريقًا لها، حتَّى أصبحت اليوم ضِمْن مجموعة العشرين الغنيَّة، وتصدَّرت دوَل العالَم في علوم الفضاء والبرمجيَّات والصناعة والزراعة، رغم المليار وأربعمائة مليون نسمة. والإجابة ببساطة.. «إسرائيل»، هذا الجسم الغريب الَّذي زرعه الاستعمار الغربي في قلبِ الأُمَّة العربيَّة، لِيقضَّ مضجعَها ويحرمَها من الاستقرار والأمن، ويقوِّضَ محاولات النُّهوض السِّياسي وجهود التنمية والتقدُّم الاقتصادي والاجتماعي، تخلَّصت الدوَل العربيَّة من الاحتلال الأجنبي، ولكنَّه ترك «إسرائيل» تُعربد في المنطقة، دَولة فاشيَّة قائمة على عقيدة الحرب والتطرُّف الدِّيني، لا تمرُّ سنة دُونَ أن تَدُورَ آلَةُ الحرب الإسرائيليَّة تحصد أرواح العرب الأبرياء، بداية من حرب 1948 والمذابح الَّتي ارتكبتها ضدَّ الفلسطينيِّين لإجبارهم على تركِ ديارهم والنزوح لاجئين إلى دوَل الجوار، وانتهاء بالعدوان الوحشي الأخير ضدَّ أهالي غزَّة لإجبارهم على مغادرة مدينتهم والهجرة للمجهول، في نكبةٍ جديدة تُضاف للنَّكبات العربيَّة.
هذا الوضع الَّذي تعيشه مطقتنا لا يصلح أن تنشأَ في ظلِّه أنظمة ديمقراطيَّة، حتَّى «إسرائيل» الَّتي يدَّعي الغرب أنَّها واحة الديمقراطيَّة في المنطقة، لا يحكمها منذ تأسيسها سوى جنرالات الجيش أو الأحزاب الدينيَّة المتطرِّفة، كما كان وجودها سببًا في انتشار التطرُّف والأفكار الإرهابيَّة المتشدِّدة في المنطقة العربيَّة، وظلَّ الأمن هاجسًا يؤرِّق دوَل الطَّوق الَّتي خاضت حروبًا مُتعدِّدة مع «إسرائيل»، وكان الجيش في نظر شعوب هذه الدوَل، هو الاختيار الأصوب لِتوَلِّي السُّلطة ـ من وجهة نظرهم ـ باعتباره صمام الأمان في مواجهة عدوٍّ لا يعرف إلَّا لُغة القوَّة. وسط هذه الأجواء تستعدُّ مصر لإجراء انتخابات رئاسيَّة، انتخابات تجري في صَمْتٍ دُونَ أن تنالَ أدنى قدر من اهتمام الشَّعب المصري، الَّذي اتَّجه جلُّ تركيزه صوب ما يحدُث في غزَّة، والخشية من المُخطَّطات الإسرائيليَّة لتهجيرِ أهلِها إلى شِبْه جزيرة سيناء، وسط هذه الأوضاع المُربِكة، يرى قِطاع عريض من الشَّعب المصري أنَّ الجيش وحده هو القادر على مواجهة هذه التحدِّيات، ويُرجئ المصريون النَّظر إلى ملفات الديمقراطيَّة والحُريَّات والتداول السِّلمي للسُّلطة إلى وقتٍ آخر يكُونُ أكثر هدوءًا.
محمد عبد الصادق
[email protected]
كاتب صحفي مصري