ينطق طرحنا للموضوع من فرضيَّة وجود علاقة بَيْنَ المتغيِّرات الاقتصاديَّة والسلوك الإجرامي للفرد، وأنَّ البُعد الاقتصادي يُشكِّل خيوطًا ممتدَّة لممارسة الإجرام بمختلف أنواعه. ففي دراسة أجرتها الباحثة بجامعة السُّلطان قابوس، ابتسام بنت ناصر الخروصيَّة (2019) بعنوان «جرائم المرأة في المُجتمع العُماني: دراسة حالة نزيلات السِّجن المركزي بولاية سمائل»، وهدفت إلى التعرُّف على جرائم المرأة في المُجتمع العُماني من خلال الكشف عن أهمِّ السِّمات الاجتماعيَّة للمرأة المرتكبة للجريمة، وأهم العوامل التي دفعتها لارتكاب الجريمة، فضلًا عن أنواع الجرائم المرتكبة من قِبل المرأة للتوصُّل إلى آليَّات يُمكِن أن تحدَّ من أشكال ومظاهر الجرائم المرتكبة من قِبل المرأة العُمانيَّة، باستخدام أداة الاستبانة لجمع البيانات من مُجتمع البحث البالغ عدده (20) نزيلة عُمانيَّة محكومة في السِّجن المركزي بولاية سمائل، حيث توصَّلت إلى أنَّ غالبيَّة أفراد مُجتمع الدراسة يتمركزن في سِن الشَّباب وسِن النضج، حيث إنَّ نسبة (90%) من مجموع مُجتمع الدراسة أعمارهن بَيْنَ (20ـ49) سنة، وأنَّ نسبة (85%) مِنْهم ممَّن مستواهنَّ العلمي ثانوي أو أقلّ، كما أنَّ غالبيَّة النزيلات من المتزوِّجات واللاتي سبق لهنَّ الزواج (المطلَّقة والأرملة) وغالبيَّة المشارِكات في البحث من الباحثات عن عمل وذوات الدخول المنخفضة؛ وأنَّ الفعل الإجرامي لا يُمكِن أن يحدُثَ بمعزل عن هذه العوامل مُجتمعة كُلِّها أو بعضها. فالعوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة المحيطة بالمرأة، والمتمثِّلة في انخفاض المستوى التعليمي والحالة الاجتماعيَّة للوالدَيْنِ، وسوء التنشئة الاجتماعيَّة، والتفكُّك الأُسري، وانهيار البناء الاجتماعي للأُسرة، ورفيقات السوء، وانخفاض مستوى دخل الأُسرة، وغيرها كُلُّها عوامل رئيسة تساعد على ارتكاب المرأة للجريمة.
وتأسيسًا على نتائج هذه الدراسة وغيرها من الدراسات التي أظهرت وجود علاقة وخيوط التقاء وترابط بَيْنَ التغيُّرات الاقتصاديَّة وتداعياتها على السلوك الإجرامي للمرأة والرجُل على حدٍّ سواء، وإسقاط ذلك على ما طرحه تقرير المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حَوْلَ الجرائم والجناة لعام 2021م، وبشكلٍ خاصٍّ ما يتعلَّق مِنْه بحصول الجرائم الواقعة على الأموال على المرتبة الأولى في تصنيف الجرائم في سلطنة عُمان للعامَيْنِ 2020 و2021م والأعوام التي قَبلها، يعطي إجابة مُقْنعة حَوْلَ الفرضيَّة التي انطلقنا مِنْها في هذا المقال بأنَّ الظروف والمتغيِّرات الاقتصاديَّة لها حضورها الواسع في الفعل الإجرامي مهما اختلف نَوْعه وحجْمُه وشكْلُه، وسواء تعلَّق ذلك بالمال أو العِرض أو غيرها من السلوكيَّات الشَّائنة والظواهر المُريبة، حيث تشير الإحصائيَّات إلى أنَّ عدد الجرائم المُسجَّلة في عام 2021م بلغ (12812) بارتفاع بلغ (13%) عن عدد الجرائم المُسجَّلة في عام 2020م والذي بلغ (11.312). ومن حيث تصنيف الجرائم، فإنَّ الجرائم الواقعة على الأموال هي أكثر الجرائم ارتكابًا في عام 2021م بـ(4121) بنسبة 32.2% بما يزيد على عددها في عام 2020م، حيث بلغ عددها (3.422) جريمة وبنسبة (30%) لِتُشكِّلَ الجرائم الواقعة على الأموال المرتبة الأولى في تصنيف الجرائم في سلطنة عُمان في السنوات الأخيرة؛ وأنَّ 98% من هذه الجرائم الواقعة على الأموال تتركز في السرقة والشروع فيها، والاحتيال، وإساءة الأمانة، والإضرار بالأموال الخاصَّة، مع وجود جرائم أخرى تتفاوت في حجم ممارستها وتقع تحت هذا التصنيف، مِثل: الإضرار بالأموال العامَّة، والحريق قصدًا والشروع فيه، والقرصنة الإلكترونيَّة، واستعمال بطاقة الغير دُونَ عِلمه، والتعدِّي على البطاقات الماليَّة، أو غيرها ممَّا يتحدث عَنْه الواقع كالغشِّ والابتزاز الإلكتروني والمحافظ الوهميَّة والنَّصب على المواطن في الحسابات البنكيَّة، وممارسات أخرى تتعلق بالقروض الشخصيَّة بَيْنَ الأفراد، والحلف والحنث باليمين والإنكار، والشيكات المرتجعة من غير رصيد، وعدم دفع الإيجارات السكنيَّة والتجاريَّة، واستغلال المناصب الوظيفيَّة، واختلاس المال العامِّ، والابتذال الخُلقي والاستعراض الجسدي بهدف الحصول على المكاسب الربحيَّة السريعة عَبْرَ الدعاية والإعلانات التجاريَّة، والشهرة والظهور الجريء غير اللائق للمرأة في المنصَّات الاجتماعيَّة مقابل الحصول على المال على حساب الدِّين والشَّرف والعِرض والقِيَم، والحالات المتعلقة بالتسوُّل وغيرها من الظواهر الاقتصاديَّة السلبيَّة التي باتَتْ تُمارس بآليَّات وطُرق وأوصاف احترافيَّة، ومن فئات مختلفة في المُجتمع، وتُمثِّل في مجملها ظواهر سلبيَّة وممارسات تتجافى مع الذَّوق العامِّ والمشاعر المُجتمعيَّة. أمَّا من حيث التوزيع النسبي للجناة بحسب الجرائم في عام 2021، فقَدْ شكَّل العُمانيون نسبة (49%) من إجمالي الجناة، وأنَّ 30% من الجناة العُمانيين ارتكبوا الجرائم الواقعة على الأموال، وفي المقابل شكَّل الأحداث ممَّن هم دُونَ سنِّ الثامنة عشرة رقمًا صعبًا في السلوك الإجرامي بواقع (3.8%) من نسبة الجناة.
وعلى الرغم من أنَّ بيانات الجريمة والجناة ما زال يشوبها بعض الغموض في تفاصيلها الدقيقة التي جاءت الحاجة إلى أن تظهرَ بشكلٍ أوضح وأوسع في التقارير الرسميَّة القادمة، فعلى سبيل المثال: مَن هي الفئة الأكثر ممارسة لهذه الجرائم وفق تصنيف الجرائم؟ وكم يُشكِّل الشَّباب فوق 18 عامًا؟ وكم يُشكِّل الأحداث فيها؟ وهل المُبرِّر الاقتصادي والحصول على المال (حجم الاحتياج الشخصي للمال) يُشكِّل رقمًا صعبًا في ممارسة هذه الجرائم أو انتشار هذه الظواهر؟ وما مدى الحاجة إلى وجود متغيِّرات أكثر وأعمق في تناول الظاهرة أو السلوك الإجرامي؟ وما هي الظروف العامَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والنَّفسيَّة والفكريَّة والتعليميَّة للجناة؟ وغيرها كثير، بحيث تظهر في الإحصائيات بشكلٍ أكثر وضوحًا حتَّى يتسنَّى فهْمُ العلاقة بَيْنَ هذه المتغيِّرات ومستوى حضورها في السلوك الإجرامي، بما يُلقي على عاتق المركز الوطني للإحصاء والمعلومات ـ المرجعيَّة الوطنيَّة لتلبية احتياجات ومتطلبات سلطنة عُمان من الإحصاءات الرسميَّة والمعلومات الموثَّقــة ـ في إعادة إنتاج مسار المعلومات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وتعظيم دَوْر المؤشِّرات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في إنتاج حلول نوعيَّة وخيارات أوسع تساعد الجهات المعنيَّة في الوصول إلى قرارات أكثر احترافيَّة في التعامل مع البُعد الاقتصادي وعلاقته بالإجرام، ويضع الأُسرة والمُجتمع ومؤسَّسات المُجتمع المَدني والتعليم والإعلام والمؤسَّسات الدينيَّة والتشريع والقانون أمام مسؤوليَّة بناء سياسات وطنيَّة وشراكات عمليَّة في مواجهة التداعيات الأمنيَّة والجرميَّة على المتغيِّرات والظروف الاقتصاديَّة، والتعامل مع تفاصيلها بمهنيَّة واستشعار الجميع لمسؤوليَّته ونطاق عمله في هذا الجانب.
عَلَيْه، فإنَّ قراءة هذه المؤشِّرات المرتبطة بالظروف الاقتصاديَّة للجاني على سلوكه الإجرامي من جهة أو علاقة التحَوُّلات الاقتصاديَّة بالظواهر السلبيَّة التي باتَتْ تحدُث في المُجتمع وتتجانب مع الهُوِيَّة والقِيَم والأخلاق العُمانيَّة، أو لها نتائج عكسيَّة على النسيج الاجتماعي؛ يستدعي البحث عن معالجات جادَّة وشراكات عمليَّة في الحدِّ من مخاطر السلوك الجرمي وتأثيره على النسيج الاجتماعي والهُوِيَّة العُمانيَّة والقِيَم الأخلاقيَّة، ويؤسِّس لمرحلة متقدِّمة من العمل الوطني الموَجَّه الذي يقرأ الحالة الاقتصاديَّة في إطار المنظومة الاجتماعيَّة والثقافيَّة والأمنيَّة؛ كونها ليست حالة منفصلة عن الواقع، لذلك فإنَّ أيَّ سياسات أو توجُّهات أو إجراءات اقتصاديَّة يجِبُ أن تأخذَ في الحسبان الحيلولة دُونَ الإضرار بقِيَم المُجتمع والهُوِيَّة العُمانيَّة، وأن لا تُشكِّلَ الظروف الاقتصاديَّة والحالة المعيشيَّة للمواطن وحجم الدخل، مُبرِّرًا ودافعًا له في الإجرام؛ ذلك أنَّ مخاطر هذا الاتساع الجرمي يتجاوز الحالة الفرديَّة إلى المُجتمع، ثمَّ المصالح الوطنيَّة العُليا، إذ إنَّ اتِّساع الجريمة الاقتصاديَّة يُهدِّد الاقتصاد الوطني والأمن الاجتماعي والاستقرار النَّفْسي والاستثمار والإنتاج، حيث تُعدُّ الجريمة الاقتصاديَّة من أهمِّ العوامل السلبيَّة التي تعوق جهود التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وتُقلِّل من فرص الاستثمار نظرًا لِمَا تحتاجه نظريَّة الاستثمار من بيئة آمنة وقوانين تجمع بَيْنَ الإنتاجيَّة والمُرونة والكفاءة والقوَّة التي تضع حدًّا لهذه الثغرات والمقلقات، وتقف في وَجْه المحافظ الوهميَّة والاحتيال وغيرها. لذلك تنفق الدوَل اليوم الكثير من الأموال في سبيل تأمين منظومتها الاقتصاديَّة عَبْرَ تعزيز الأمن المعلوماتي والأمن السيبراني وموثوقيَّة الخدمات الإلكترونيَّة، بما من شأنه الحدُّ من التأثير على استقرار الاستثمار، وطمأنينة أصحاب الأموال. ولعلَّ ما يدعو للقلق المستمر هو أنَّ الجريمة الاقتصاديَّة والواقعة على الأموال تُسجِّل كُلَّ يوم تطوُّرًا جديدًا في أنماطها، واستحداثًا في أساليبها، ومضاعفات في الخسائر الناجمة عَنْها، وذلك ما تؤكِّده الإحصاءات التي أشرنا إلى بعضها، بل وظهرت لها أشكالها المعقَّدة ممَّا تُحذِّر مِنْه شُرطة عُمان السُّلطانية عَبْرَ موقعها الإلكتروني وصفحاتها في المنصَّات الاجتماعيَّة ممَّا باتَتْ تستخدمه العصابات الإجراميَّة مِثل اختراق بطاقات السَّحب الآلي وسحب أموال وودائع عملاء بنوك تجاريَّة دُونَ عِلْم أصحابها.
أخيرًا، يبقى التساؤل مطروحًا: إذا كانت الظروف والمتغيِّرات الاقتصاديَّة في مستوياتها المتدنِّية تُشكِّل خطرًا على أمن المُجتمعات في توقُّع اتِّساع السلوك الجرمي وانتشار الظواهر السلبيَّة؛ ومن منطلق أنَّ ما يحصل من ممارسة بعض الإجرام الاقتصادي كالسرقة والغشِّ والابتزاز قَدْ لا يكُونُ سببُه الحاجة للمال، بل يحصل السلوك الإجرامي ممَّن هو في وضع اقتصادي جيِّد، بما يعنيه ذلك أيضًا من أنَّ تعميم الفرضيَّة التي أشرنا إليها قَدْ لا ينطبق على حالات أخرى يكُونُ فيها السلوك الإجرامي كردَّة فِعل له علاقة بظروف واعتبارات شخصيَّة واجتماعيَّة ونَفْسيَّة واختلالات لا إراديَّة وشغف ذاتي في الإجرام، لإرضاء غرور النَّفْس، أو تأتي نتاج إرهاصات وتفاعلات وهواجس أخرى لدى الجاني غير مفهومة في ظاهرها العامِّ؛ وقياسًا إلى ما أشرنا إليه، إلى أيِّ مدى يُمكِن أن يُسهمَ الإسراع في تطبيق المنافع النقديَّة والبرامج التأمينيَّة التي أقرَّتها منظومة الحماية الاجتماعيَّة في دَرْء هذه المخاطر وتقليل دافع السلوك الإجرامي؟


د.رجب بن علي العويسي
[email protected]